شعار قسم مدونات

أنا الناي

blogs ناي

انفثني، لعلني أعود روحًا بلا طين، وقد غدوت طينًا بلا روح في طفرة المادية، وسطوة الحضارة. انفثني سر الوجود وإرادة الخلق، فيضًا على العدم، وجريًا من الصدر على مواضع الألم. انفثني وانتظر سجود النور في الحضرة، انفثني وانفض عني، غبار الأتربة العالقة من الهامسين، وارفع عني ثقل ركام الصارخين. وحررني من صراعات الطين بالطين، إلى حيث وُجدتُ أزلًا في عليين. انفثني، نارًا تستعر فلا تحرقني ولا تحترق، بل تغدو عزفًا يخترق، وعلى الشجن المبحوح من ذاك القصب سلام، وعلى النَفَس المذبوح من ذاك الصدر سلام. 

 

مررني أناملًا تتبع تنهيدة العازف، وملاذ الهواء، تَرْبِتُ بحنان على منافذ البوح، فيتلون اللحن، ويتورد القصب، مررني بنانًا مسوّاةً بعد القَسَم، "بلى القادرين" على إتمامها، رؤوس أصابع تترك بصماتها على اللحن، فيصعد صاعدًا بروحي إلى معارج الوجد والفناء، إذا ما حررت أنفاسها الأصابع، ويهبط هابطًا بدمعي في وديان السكينة والرواء، إذا ما أغلقت عليها النوافذ.

 

انحتني قصبًا مخبوءًا بضع سنين، بذرة في الطين، تُروى لخمس سنين، حتى إذا ما استيأس الزُّرّاع، استطال فاستوى على سوق الحياة، ثم أتاك طائعًا تُعْمِلُ فيه منارات النفخ ونوافذ النوتة، وتحفر فيه ستة كأيام الخلق، وسابعها من وراء القصب محيط، حتى إذا ما استندت أنملتك على إحدى عُقَدِ العود، أحسست بالناي يميل إليك، ويستحث فيك حنين البوح وحنان الاحتضان، وهو يطمئن فيك الصدر أن بُح لي، فأنا محط السر المكنون، وقراره الأخير. 

أنا الناي، لا أرضى منك إلا كلك، في حضرتي لا مجال للكلام، يشغلك عنه النفخ. ولا مكان للنظر يشغلك عنه الإغماض، ولا حيّز للخطو، أستبدله لك بالجلوس الأنيق أو الوقوف المحتشم
أنا الناي، لا أرضى منك إلا كلك، في حضرتي لا مجال للكلام، يشغلك عنه النفخ. ولا مكان للنظر يشغلك عنه الإغماض، ولا حيّز للخطو، أستبدله لك بالجلوس الأنيق أو الوقوف المحتشم
 

اهمسني شفاهًا على أطراف العزف، قُبلةً موسيقية، لا تخشى خشونة الغصن، تستلقي غضة على بدايات اللحن، وتُتْبِعُ النفخة بالنفخة، والبوح بالبوح، رسائل الصدر العامر، والسر المكتوم، تستريح لالتقاط النَفَسْ وتتشبث ببوابة الموسيقى دون استراحة. 

 

أغمضني جفنًا لا يرى إلا العزف في خيالات العازفين، ولا يرى إلا الفتوحات في رؤى العارفين، خاشعًا في حضرة الالتياع، دامعًا في حضرة الحنين للجذع الأول. يكتفي من العزف بالبصيرة والبصر، ومن الهيام بالدليل والأثر. 

 

أصغِ لي مقامًا، حجازي الهوى، صبا الوجد، نهاوند الدلالة، كردي الطرب. يرتقي الرست في مساماتي، ويتوه العجم في ارتقاءاتي، يتلوى فيَّ المفتون، ويخشع في حضرتي السالك والمجذوب، تلقاني في ليالي الطرب، ومقامات الابتهال، حتى إذا ما تسامى بالسامع الوجد رقصوا، فتساوى فيَّ الجميع.

 

أنا الناي، فارسي النشأة، مولوي الاصطفاء، قال فيَّ الرومي قوله، وأفرد لي في مثنويه القصيدة:

"أنصت إلى الناي يحكي حكايته..

ومن ألم الفراق يبث شكايته:

مذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون

أريد صدرًا مِزَقًا مِزَقًا برَّحه الفراق

لأبوح له بألم الاشتياق.."

 

أنا الناي يشبهني وحيدا، مقطوعًا إلا من الحنين، خاويًا إلا من الأسرار، مجذوعًا إلا من الغصن، فإن لم تُقطع لن تبلغ، وإن لم تُجرح لن تشدو، وإن لم ترحل في حقائب العازفين لن ترتقي المسامع

أنا الناي، رعاني في حضرات المولوية مريدوه، وطاف على لحني الشجي الدراويش، على أنغامي رفع يده اليمنى إلى السماء طالبًا الغوث، وباسطًا يده اليسرى مغدقًا العطاء. 

 

أنا الناي، قصبة جوفاء إذا رأيت، تبلغ بك حد الامتلاء إذا استمعت، عود يابس إذا لمست، آلة يانعة إذا ما نفخت، رفيق الحزن والذكر والشطحات، وصنعة الفرح والطرب والرقصات، وعصا الراعي السائر في الدرب والخلوات، وحنين الهندي الأحمر بعد الغزوات. صوفي المنزلة، شرقي الموسيقى، أصيل المنشأ. أُعلّم الصبر فلا تعجل على موسيقاك، وأصبح الملاذ فلا تهرع إلى شكواك، فإن خذلك النفخ فلا تُلقني على غضب، وإن استعصى اللحن فلا تستيئس القصب.   

 

أنا الناي، لا أرضى منك إلا كلك، في حضرتي لا مجال للكلام، يشغلك عنه النفخ. ولا مكان للنظر يشغلك عنه الإغماض، ولا حيّز للخطو، أستبدله لك بالجلوس الأنيق أو الوقوف المحتشم. 

 

أنا الناي يشبهني وحيدا، مقطوعًا إلا من الحنين، خاويًا إلا من الأسرار، مجذوعًا إلا من الغصن، فإن لم تُقطع لن تبلغ، وإن لم تُجرح لن تشدو، وإن لم ترحل في حقائب العازفين لن ترتقي المسامع، وإن لم تكابد الترحال لن تصل، دع عنك ظل الأم الشجرة، واترك لذاتك النأي الخلاّق، أنا الناي، أنا أنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.