شعار قسم مدونات

عن هَوَسٍ مَرذول

blogs حماس

في نطاقنا العربي تحديدا، وحيث التغيرات أسرع من أن تدركها عين متابع، وحيث إن ما تفرزه من مفاجآت غير متوقعة قد تشطب في لحظةِ تحوّلٍ كلّ ما كُتب أو قيل قبلها، وما تم تقريره من استنتاجات أو قواعد، وسط هذا كلّه ما نزال نجد من يركّز همّه في كل تعقيب له على تلك المتغيرات على محاولة إثبات صدق تحذير سابق له أو توقّع بمآل معيّن، وقد يتجاوز الأمر حدود التذكير بمواقف سابقة له إزاء بعض الأحداث إلى درجة الإصرار على تكييف ملابسات كل مستجدّ لتبدوَ كأنما جاءت مصداقًا لكلام أو تحليل سابق له.

 

يغيب عن الذين يهتمون بإثبات وجاهة رأيهم أكثر من اهتمامهم بالنقد الموضوعي للتجارب المختلفة أنه ليس هنالك خيار سياسي مثالي، ولا يمكن لأي مسار أن يتجرّد من السلبيات الطبيعية التي قد تتضخم بتقادم الأيام، دون أن تلغي عامل الاضطرار لخوضه ابتداء.

  

ما من كائن بشري، مهما امتلك من حظوظ الفطنة والحكمة، يملك أن يقدّم حلًا سحريًا لأي أزمة، أو يصدر حكمًا مطلق الصوابية على تجربة ماضية

كأمثلة على ذلك، يمكن التدليل -في الحالة الفلسطينية- باضطرار حركة حماس للمشاركة في انتخابات 2006 ثم تشكيل الحكومة، ثم اضطرارها لاتخاذ خطوة الحسم في غزة بعد ذلك بعام، فرغم وجاهة خيار مقاطعة الانتخابات وقتها من ناحية مجردة، إلا أن تلك المقاطعة كانت من جانب آخر ستسهّل مهمة إقصاء الحركة الكلي عن المشهد الفلسطيني، ليس كلاعب سياسي على الساحة، بل كمشروع مقاوم، وهذا أخطر ما في الأمر، ولعل الحركة لم تكن تخشى على شيء وقتها مثل خشيتها على مشروعها المقاوم، خصوصًا أن خصمها الأساسي على الساحة الفلسطينية يجاهر بتبني خيار يناقضه تماما، فيما تُعين مجريات الأحداث في الضفة الغربية حيث السيطرة الأمنية لحركة فتح على رؤية المصير الذي كان ينتظر المقاومة في غزة أيضًا لو لم تكن حركة حماس مستندة لشرعيتها الانتخابية، ولو لم تسارع لاتخاذ قرار الحسم، حين استفحلت التصفيات لكوادرها العسكرية، وعمّت الفوضى الأمنية قطاع غزة عام 2007.

 

لا يعني هذا أن مشاركة الحركة من جديد في الانتخابات أو مطالبتها بها قد تكون خيارًا صائبًا، بل إن سلبيات التوجه لانتخابات جديدة قد تتفوق على الإيجابيات المترتبة على ذلك، لأن تفاصيل التجربة السابقة ومستجدات تبعاتها تقول إن خسارة الحركة أو فوزها سيشكلان مأزقًا جديدًا لها، ولأن آخر ما تحتاجه القضية الفلسطينية حاليًا هو الاشتغال بالانتخابات وتناسي الفاعل الأساسي هنا وهو الاحتلال، وانعدام السيادة، وانتفاء الأجواء المعينة على بناء نظام سياسي تحت الاحتلال. لكن عدم التوافق على هذه المسألة بين جميع الأطراف الفلسطينية سيحدث اختلالًا كبيرًا من الممكن أن يفرز أيضًا خطوات اضطرارية محفوفة بالسلبيات.

 

في الحالة المصرية وما حدث منذ الثورة وصولًا إلى الانقلاب، يمكن أن يُقال الكثير أيضا، كما يمكن ملاحظة تكوّن فئة لا تُجيد سوى التنظير المثالي، وتبالغ في تقرير تصورات حول مسارات تعتقد أنها كانت متاحة وسهلة، وتستمر في جلد فريق دون غيره، بل دون أن تنظر في مسؤولياتها هي، فيما يغيب عنها أن الغفلة بمآلات الثورة كانت شاملة، وأن ارتكاب الأخطاء طال جميع النخب الثورية والفكرية والسياسية، بل إن قسمًا من عامة الناس كانوا وقودًا للأخطاء والكوارث السياسية وما زالوا.

 

مشاركة الحركة من جديد في الانتخابات أو مطالبتها بها قد لا تكون خيارًا صائبًا، بل إن سلبيات التوجه لانتخابات جديدة قد تتفوق على الإيجابيات المترتبة على ذلك
مشاركة الحركة من جديد في الانتخابات أو مطالبتها بها قد لا تكون خيارًا صائبًا، بل إن سلبيات التوجه لانتخابات جديدة قد تتفوق على الإيجابيات المترتبة على ذلك
 

إن النظر إلى التجارب عن بعد وتقييمها أمر يسير، وخصوصًا بعد أن تتبيّن معالم تلك التجربة وما أفضت إليه، وقد تكون الصورة العامة أكثر وضوحًا للمراقب عن بعد منها للمنخرطين في التجربة والخائضين غمارها، لكن التفصيلات المهمة تغيب عن المتابع عن بعد، لأن هذه التفاصيل إنما تشكل الصورة العامة، وقد تفرض عليها خيارات معينة، أو تجعل هامش مناورتها ضيقًا ومحدودا.

 

ما من كائن بشري، مهما امتلك من حظوظ الفطنة والحكمة، يملك أن يقدّم حلًا سحريًا لأي أزمة، أو يصدر حكمًا مطلق الصوابية على تجربة ماضية، وهو إن صدق في تنبّؤ مآلات حدث ما فهذا لا يمنحه عصمة من الخطأ في غيره، لأن الإنسان يبقى بشرًا فيه نقص حتى وإن سعى للكمال، وهذا يلزمه بالتواضع في تصوراته عن نفسه، وفي طرحه المتضمن نصائح لغيره، خصوصًا إن كان غيره متحركًا ومثقلًا بالمسؤوليات، ومكرهًا على بعض الخيارات، لأن في نقيضها محاذير كثيرة أيضا.

 

لكن هذا لا يعني أن الفاعل والمتحرك ينبغي أن يُصغي فقط لما تقرره ظروفه الآنية، ولا يعني أن كل اجتهاداته الخاطئة مبررة، فحاجته للمراجعة والنظر في خطواته تظلّ قائمة، ومثلها ضرورة أن يفرّق بين الناصح الحريص، والمنظّر الشامت أو المسكون بهوس الانتصار لذاته لا لقضية أو مبدأ، وأن يوازن بين متطلبات الاضطرار واستحقاقات الثبات، وألا يمنح نفسه حقّ الانجراف مع تيار اللحظة إلى أبعد مدى، فهذا هَوَس آخر، قد يُنشئه الموقع والأضواء والثناء والسطوة، وهو لا يقل رداءة عن النوع الأول من الهوَس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.