شعار قسم مدونات

في حُبِّ فتحي الشقاقي

Palestinian men, women and children hold up Islamic Jihad banners and a portrait of the group's late founder Fathi Shaqaqi during a rally attended by tens of thousands of Palestinians in Gaza City on October 29, 2010 to mark the 23rd anniversary of the founding of the hardline militant movement. AFP PHOTO/MOHAMMED ABED (Photo credit should read MOHAMMED ABED/AFP/Getty Images)
عاش فتحي الشقاقي (1951 – 1995) أربعة وأربعين عامًا، وقد كنتُ قبل أن أبدأ بالكتابة عنه في ذكرى استشهاده؛ أقرأ في واحد من كتب أبي حامد الغزّالي، وقد انصرفتُ أثناء ذلك مستغرقًا في التفكير في عظيم أثره على قلّة عمره، حتى تذكّرت ما نقله النووي -وهو أيضًا واحد ممّن عاش قليلاً وعظم أثره- في كتابه "بستان العرفين" عن شيخه البتليسي قوله: "أحصيت كتب الغزّالي التي صنّفها ووُزِّعتْ على عمره، فَخُصَّتْ كلَّ يوم أربع كراريس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"، وقد ذكّرني قوله، بما ذكره البيهقي في "مناقب الشافعي" عن إسحاق بن راهويه وقد سُئل عن الشافعي "كيف وضع الشافعي هذه الكتب وكان عمره يسيرًا"، فأجاب: "جَمَعَ اللهُ عقلَه لقلَّة عمره"، وفي نقل آخر "عجّل الله له عقله لقلَّة عمره".

والحقّ أن هؤلاء الثلاثة، الشافعي والغزّالي والنووي، لم يكن عظيم أثرهم في غزارة ما كتبوه فحسب، ولكن أيضًا في أثرهم الكبير، كل بحسبه، في تكون علوم المسلمين، وتشكيل الشخصيّة الإسلامية، وطرائق تفكير المسلمين، على نحو لم يزل قائمًا حتى الساعة.

وقد تبيّن لي في القريب من أيّامي شغفي بالذين عاشوا قليلاً وأثروا الوجود كثيرًا، ولعلّ ذلك ناشئ عن سرّ تفكري المضني بالحياة والموت، ومصائر الناس فيها، وهو التفكير الذي لا يكاد يغادر لحظة من ساعاتي، وأحسب -الآن- أن هذه السجيّة، التي صاحبتني منذ الطفولة، ووعيتها في الجاري من هذه الأيام، مما يحملني على التعلّق أكثر بالشهيد فتحي الشقاقي، رحمه الله، وإن لم تكن أسباب التعلّق متوقفة على ذلك، فالأمر بدأ باكرًا، مع تفتّح أولى إشراقات الوعيّ.

لم يكن الشقاقي محض نصوص تركها، قد نتفق أو نختلف اليوم في تقييمها، ولست أنكر أنني أخالفها في كثير أو قليل منها، وإن كانت جمعتني تجربة خاصّة مع تلك النصوص
لم يكن الشقاقي محض نصوص تركها، قد نتفق أو نختلف اليوم في تقييمها، ولست أنكر أنني أخالفها في كثير أو قليل منها، وإن كانت جمعتني تجربة خاصّة مع تلك النصوص
 

وقد أتعبني في حبّ الشقاقي فريقان؛ الأوّل يحسب نفسه عليه، ويدّعي نفسه امتدادًا له، وقد علم ما بيني وبينه، أي هذا الفريق الأول، من اختلاف إذ لا أنتمي لتنظيمه، وأفارقه في تقييم دول وأحزاب وطوائف، ولا أشاركه ولاءات سياسية جارية، وهو إذ يُصنّفني؛ فإنّه يقيسني على نمطه، ويحسبني أسيرَ نمط يفترضه هو ولا وجود له إلا في أوهامه، وإذ إنّ حبّي للشهيد يُبطل تصوّره عنّي، أو نموذجه التحليليّ، فإنّه يُبغض حُبّي هذا، وهذه من العجائب التي يمكن تفسيرها.

والثاني مقابل الأول، يعيشُ سجينًا في أسى أيّام غابرة حينما "فارق الشقاقي الجماعة"، ولا يكاد يجد والحال هذه، متعلَّقًا للحبّ أو الإعجاب أو التأثّر، فالوجود عنده، بحجم الجماعة، وهو إذن -أي الوجود- صغير، بيد أنه عندي أكبر من ذلك، والتفكير في دروب الرجال، ومآلاتهم، ومآثرهم، وسرّ الحياة والموت، من قبل ذلك، لا يمكن حشره في طائفة من الناس، أو عزل من كانت حياتهم جديرة بالتأمل عنه، والأمر هنا يبدو محض شخصيّ، وليس الأمر كذلك تمامًا.

ولستُ أدري لو عُمِّرَ الشقاقي إلى ساعتي هذه إن كنت سأظلّ على إعجابي القديم، فما أشدّ وطأة تقلّبات الأيام على مكانة الرجال، ومهاوي الحبّ البكر، في نفسي، تكاد تسحق كثيرًا مما يبدو جديرًا بالحنين الدائم، وما أشدّ تفلّت نفسي من ربقة الإعجاب.

عدت لقراءة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، دون أن أدّعيَ تجرّدًا من تجربتي وأفكاري ومشاعري، قرأتها بنضج اليوم مقيّمًا لها في زمانها وظرفها، فزاد إعجابي بالشقاقي

بيد أن هؤلاء الذين خُتم لهم بالشهادة، طوّقوني بما لا وجود لنفسي خارجه، وهذا حالي مع الشهداء كلّهم، والأخصّ منهم في هذا الحال، الذين كانوا أعظم أثرًا في الوجود في عُمْرٍ يسير، وكانت لي تجربة خاصّة معهم، كأن أعيش أيامهم أستنشقها كلّها بقلبي، أعيشها لحظة بلحظة بكلِّ مداركي، ولستُ أجد تصويرًا لذلك، سوى أنني كنت فعلاً، حقًّا بلا مبالغة، أعيش معهم، ولست بينهم، وأستجمع قدرتي على الخيال أتصوّر احتمالات ما يفعلون، وهذا كان حالي مثلاً مع الشهيد يحيى عيّاش، رحمه الله.

وما كان ملكني في الطفولة، على هذا النحو، لا يغادرني، حتى صرتُ سقيمًا به، فإن كان ممن صاروا شهداء، وانخلعوا من حياتنا قبل الفساد، فهو دوائي، وقد كان الشقاقي، رحمه الله، بعضًا من طفولتي، قسطًا وافرًا من كلِّ يوم فيها، ومن أخصّ ما يحمله الإنسان في نفسه؛ وعيه وقلبه.

فقد وجدتُ، وأنا طفل في التاسعة، في مكتبة مسجد قريتنا العتيق الصغير، أعدادًا من مجلات "الطليعة الإسلامية"، "والمختار الإسلامي"، فقرأتها، وحفظت نصوصًا كاملة منها، تلوتها في الإذاعة المدرسية، وبعد قليل من السنوات، وأنا في مَهْيَع المراهقة، صنعت مجلة سمّيتها "الطليعة الإسلامية"، وبعدما دخلتُ الجامعة استنسخت شيئًا من صورها وأفكارها، لعملنا الطلابيّ حينها، واشتريت وقتها المجموع الذي حوى أعماله الكاملة، ولا شكّ أنّي وجدْتُّ شيئًا مختلفًا عما عهدته، قد جذبني إلى تلك المجلات، وما كتبه فيها "عزّ الدين الفارس"، أي فتحي الشقاقي..
ثمّ لم يعد الأمر شخصيًّا، وحنينًا إلى لحظات، أنا واثق أنها ساحرة، لا بحنيني إليها الآن فحسب، ولكن حقيقة حينما كنتُ فيها.

ولا شكّ أن العودة للنصوص القديمة من بعد الحنين الجارف، تنتقص من ذلك الحنين، فقد أحرقت والدتي -حفظها الله- تلك المجلات في أول اعتقال لي، خشية عليّ، ثم إنّني وقد استعدت بعضها بعد سنوات، أنهكتني بالتجربة، وامتحنتني بكثرة ما رأيت وسمعت وقرأت؛ عدت وأثناء دراستي لجانب من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، فقرأتها مجدّدًا، دون أن أدّعيَ تجرّدًا من تجربتي وأفكاري ومشاعري التي نحتتها السنوات، وأدمتها مخالب المحن، وإنما قرأتها بنضج اليوم مقيّمًا لها في زمانها وظرفها، فزاد إعجابي بالشهيد.

ولم يكن الشهيد محض نصوص تركها، قد نتفق أو نختلف اليوم في تقييمها، ولست أنكر أنني أخالفها في كثير أو قليل منها، وإن كانت جمعتني تجربة خاصّة مع تلك النصوص، فليس هذا حالنا كلّنا، بيد أنّه قد أضاف لنفسه بما تركه من نصوص، ومنح لفاعليته زمنها بعدًا إضافيًّا، ميّزه عن غيره من الفاعلين، الذين استشهدوا أو لم يُستشهدوا، وقدّم بذلك مثلاً فريدًا عن المثقف المناضل في سياق الكفاح الفلسطيني، هو مثقف إسلاميّ هذه المرّة.

لا شكّ أن للشقاقي دور كبير في صناعة أحداث عظام، واستحقّ مكانه بين الذين عجّل الله لهم عقولهم وإراداتهم وهمّتهم لقلّة أعمارهم، وجعلهم مباركين، وختم لهم بالشهادة
لا شكّ أن للشقاقي دور كبير في صناعة أحداث عظام، واستحقّ مكانه بين الذين عجّل الله لهم عقولهم وإراداتهم وهمّتهم لقلّة أعمارهم، وجعلهم مباركين، وختم لهم بالشهادة
 

إنما كان الشهيد، كتلة جسيمة، من الفعل والجاذبية، بعدما دخل مصر في العام 1974، وهو ما يزال في مطلع العشرينيات من عمره، إذ سرعان ما يلتحم بحركات التحولات التي تمور في مصر وجامعاتها، مؤثّرًا ومتأثّرًا، ومتفاعلاً ومنفعلاً مع مجمل الأحداث الضخمة التي تحيط بالعرب والمسلمين، آخذة جاذبيته تتكثّف لمجموعة من الزملاء حوله، وأفكاره تتبلور أكثر وأكثر، وتثير الوسط الطلابي الفلسطيني الإسلامي الذي كان الشهيد في قلبه، حتى إذا كان قد دخل الثلاثين من عمره كانت أفكاره أكثر استواء.

وما بين العام 1981، أي رجوعه من مصر إلى فلسطين، واستشهاده في العام 1995، أي في أربعة عشر عامًا فحسب، سُجن خلالها مرتين، وأبعد خارج الأرض المحتلة؛ نشرَ أفكارًا جديدة، فعلت فعلها أخذًا وردًّا، وظلت تتبلور حركة وفعلاً، حتى كان مع رفاقه، ممن دفعوا، من بين غيرهم، حركة الكفاح الفلسطيني، وصولاً إلى الانتفاضة الأولى، منقذين إياها من مأساة الخروج من بيروت، وساهموا، بنقدهم ومنافستهم، في دفع الجسد الأكبر من الحركة الإسلامية الفلسطينية للتوجّه نحو تلك الحركة، حيث التقى الجميع في الانتفاضة الأولى، وبهذا فإنّه لا شكّ أن لهذا الرجل دورًا كبيرًا، في تلك السنوات القليلة، في صناعة تلك الأحداث العظام، واستحقّ مكانه بين الذين عجّل الله لهم عقولهم وإراداتهم وهمّتهم لقلّة أعمارهم، وجعلهم مباركين، وختم لهم بالشهادة.

كيف يكون لرجل واحد تلك السطوة الودودة على من حوله، ثم ذلك الفعل في تلك الأحداث العظام؟ تبدو لي تلك الكلمات التي كتبَها رفيق للشهيد وهو لم يزل سجينًا في سجن نفحة عام 1988، محاولة لتلمس ما كانه، ثم أقام عليه بعد أن استشهد: "كنتَ من بيننا الرجل البندقية لا تنكسر، ومن الداخل هشًّا كحمامة، وقريبًا كالمطر، ودافئًا كبحر أيلول، وشهيًّا كبداية الطريق!".
الشهيد بالنسبة لي، هو صفحة ساحرة من بداية الطريق.. الشهيّة حقًّا، استنشقناها كاملة، وظلّت في دمنا معنى الوجود حياة وموتًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.