شعار قسم مدونات

انقسامٌ متصالحٌ ومصالحةٌ منقسمة

blogs المصالحة الفلسطينية

في عام 2006 مررت بطفلين، يحملان حجارة من " الحِوَّر" بكسر الحاء وتشديد الواو المفتوحة، وهو حجرٌ صخري طباشيري، تشتهر بها جبالنا هناك، وهناك تعود على هضاب نابلس ومرتفعات طولكرم، كانا يتسابقان في كتابة عمودين من الكلمات، منهمكين في تعبئة الأسفلت، ليحصدا عددا أكبر من الأقدام الدائسة لما يخط كل طفل، اقتربت من الطفلين فإذا بالشارع ممتلئٌ بكلمتي فتح وحماس، يبدو أن استقطاب الشارع قد وصل حرفياً إلى هذين الطفلين، وهاهما يفرغانه فيه. 

 

ذكرتني هذه الحادثة، بانهماكنا في طفولتنا بمحاولة الدوس على ظل الآخر إمعاناً في إهانته، وبينما أنت منهمك في إشباع ظل الآخر دوساً يكون هو قد نال من ظلك بنفس العدد والكمية، فتُرد المهانة ولا منتصر في معركة وطء الظلال.

 

في أواخر الثمانينات، نُقل إلى عيادة والدي-طبيب القرية آنذاك-شاب ملثم بكوفية حمراء، ينزف من رأسه، يحمله شاب ملثم بكوفية بيضاء وسوداء على عجل، وذلك بعد الاشتباك الذي كان حاصلاً بين الفصيل حديث العهد بالانطلاقة القوية والمندفعة "حماس"، والفصيل المخضرم في الثورة الفلسطينية "فتح"، ليكتشف بعد نزع اللثام أنه أخوه، ابن أمه وأبيه، لكن العصا في ظلمة الليل البهيم كانت أقل تمييزا بين الأصوات والصرخات المتعالية، بعد الاصطدام الحاصل أثناء إعلان الإضراب في ذكرى وعد بلفور. 

 

فلتكن فصائل مختلفة لكنها تدرك الاختلاف، وتتنوع راياتنا لكنها تشكل الراية الأم، ولتُصَبْ حناجرنا بالبُحّة، ما دام الهتاف لبطننا الأم، وليكن انقساماً متصالحاً أو مصالحةً منقسمة ولا منتصر في معركة وطء الظلال
فلتكن فصائل مختلفة لكنها تدرك الاختلاف، وتتنوع راياتنا لكنها تشكل الراية الأم، ولتُصَبْ حناجرنا بالبُحّة، ما دام الهتاف لبطننا الأم، وليكن انقساماً متصالحاً أو مصالحةً منقسمة ولا منتصر في معركة وطء الظلال
 

عندما يقع أحد الفلسطينيين أسيراً في سجون الاحتلال، يتوجب عليه لحظة وصوله مهجع الأسرى، "الفرز" وهو مصطلح يُعرِّف عملية تصنيفك إلى تنظيم معين داخل السجن، ليتولى التنظيم تنسيق أمورك داخل السجن وتبعيتك لجماعة تتخذ موقفها وتسير معها في نضالها ضمن الحركة الأسيرة، وكم تحتد النقاشات الفكرية، ويشب النزاع في المواقف المتخذة سياسياً في الخارج، وكيف تؤثر على قرارات وتوجهات الأسرى في الداخل، فينام الأسرى على وقع هذه السجالات، ثم يستيقظون في فجر اليوم التالي، دون فرز ولا استقطاب، للعَدّ المُذلّ من قبل مصلحة السجون. 

 

في موعد سنوي، تتوشح الجامعات بالألوان كلها وتتفتق طاقات الشباب عن جدل فكري وجدال سياسي، ويحتفي الحمر براياتهم والخضر بعصبات رؤوسهم والصفر بكوفياتهم، حتى إذا ما خرجت نتيجة الانتخابات الجامعية، اعترف الجميع بانتصار المنتصر وهزيمة المهزوم، وتناوبوا في تقديم التهنئات إلى قيادة مجلس الطلبة، بأصواتهم المبحوحة من حمى الهتاف، بينما تتناوب دوريات الاحتلال على اعتقالهم، ومداهمة بيوتهم ليلة الانتخابات. 

 

تقول جدتي التسعينية إن أمعاء البطن تتقاتل فيما بينها وتختلف، فكيف هو الحال بين أطراف قضية بحجم فلسطين، وكيف بوجهات نظر ترى التحرير من زاوية لا يعترف بها الأخر، بل ينقدها ويدحض صاحبها، وكيف إذا ما تداعت عليها محاور الإقليم وحسابات الخارج، فيصبح الصدام بين الأجندات أكبر، ومجال المناورة في تقبل الآخر أقل، لكنه قدر الأمعاء، أن يحتويها بطن واحد، وقدر الظلال أن تشكلها شمس واحدة، وقدر الأسرى أن يسجنهم محتلٌ واحد، وقدر الرصاصة أن لا تفرق بين لون الكوفية، فلا نملك أمام كل هذا إلا أن يُنبَت البيت، فصائل مختلفة لكنها تدرك الاختلاف، وتتنوع راياتنا لكنها تشكل الراية الأم، ولتُصَبْ حناجرنا بالبُحّة، ما دام الهتاف لبطننا الأم، وليكن انقساماً متصالحاً أو مصالحةً منقسمة ولا منتصر في معركة وطء الظلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.