شعار قسم مدونات

ماذا بعد الغيبوبة؟

blogs مصر

في عام 1966 نشر نجيب محفوظ روايته العبقرية ثرثرة فوق النيل، والتي صور فيها مصر وقد غرقت في بحر من الفساد والبيروقراطية العقيمة التي طغت على أجهزة ومؤسسات الدولة، هذا الفساد المستشري قابله حالة من اللامبالاة الشديدة أصابت أغلب طبقات المجتمع وفئاته وجرفت كتير من المثقفين والمفكرين معها حتى صار المجتمع أشبه بالمسطول الدائم الذي لا يعي ما يجري حوله، وتوقع الأديب العبقري أن النتيجة الحتمية لحالة السُطل هذه ستكون كارثية تدهس أبرياء لا ذنب لهم، كما توقع ردة الفعل على تلك الكارثة من اللذين تسببوا فيها، حيث يُلقي بعضهم باللوم على الضحايا والبعض الأخر سيشعر ببعض تأنيب الضمير سرعان ما يختفي ثم تعود حالة اللامبالاة، وبالفعل هذا ما حدث لأن المعنيين بأمر البلاد كانت تشغلهم مصالحهم الشخصية عن مصلحة الدولة. 

 

أحدث نشر الرواية ضجة كبيرة أثارت غضب كثير من المسؤولين كان على رأسهم المشير عبد الحكيم عامر والذي وصل لمسامع نجيب أنه قال عنه "نجيب دة زودها قوي ولازم يتأدب"، وكانت كلمة "يتأدب" عندما تخرج من المشير عامر تعني الكثير جداً في وقت كانت السجون والمعتقلات تضم المئات من المظلومين الذين يعانون من التعذيب والنسيان داخل غياهب تلك المعتقلات، فكانت كلمة المشير لا تعني سوى أن مستقبل نجيب أصبح على المحك وأنه على موعد مع سفر طويل ومؤلم تحت سطح الأرض، وهو ما دفع بعض أصدقاء نجيب للتواصل مع الرئيس جمال عبد الناصر لحمايته من أذى المشير عامر وهو ما حدث بالفعل، إلا أن عبد الناصر لم يتأمل الرسالة التي حملتها رواية نجيب والإنذار باقتراب كارثة قد تدهس الأبرياء، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من عام على نشر الرواية.

كانت هزيمة يونيو 1967 بمثابة نتيجة طبيعية لحالة الاستبداد والفساد السياسي والمالي والإداري وصراع أجهزة الدولة على النفوذ والمصالح وتدخل الجيش في السياسة بشكل فج وفق آراء عدد من قادة القوات المسلحة، وكانت أكبر كارثة وهزيمة تحل بمصر لازالت تُعاني من آثارها حتى اليوم، وكما جاءت النتيجة وفق توقع نجيب محفوظ جاء رد الفعل أيضاً..

المحزن فيما يحدث بمصر أن المتسببين فيما وصلنا إليه من تردٍ شديد لن ينتج عنه سوى كارثة ضخمة يسارعون بتأمين أنفسهم بينما سيتحمل تبعات تلك الكارثة المحتملة أبرياء لا ذنب لهم
المحزن فيما يحدث بمصر أن المتسببين فيما وصلنا إليه من تردٍ شديد لن ينتج عنه سوى كارثة ضخمة يسارعون بتأمين أنفسهم بينما سيتحمل تبعات تلك الكارثة المحتملة أبرياء لا ذنب لهم
 

إنكار وكذب وإلقاء باللوم على المؤامرات ثم بعض من تأنيب الضمير سرعان ما اختفى -وهو ما اتضح بالأحكام الهزلية لبعض القادة – وأكمل عبد الناصر طريقه كما كان بالقمع والظلم والاستبداد -مذبحة القضاة وضرب المظاهرات وغيرها – وعاشت مصر سنوات طويلة مكسورة ومهزومة ومحتلة بجانب ألاف الضحايا الذين دفعوا ثمن فساد وإهمال القادة.

 

والآن وبعد أن خلف المشير عامر ابن أخيه طارق محافظاً للبنك المركزي والذي فعل ويفعل بالاقتصاد المصري ما فعله عمه بالقوات المسلحة، والذي يتصرف في مقدرات الملايين وكأنها أموال أهله التي ورثها ولم يرِ ثمة مشكلة في كارثة تعويم الجنيه التي أغرقت المصريين في مزيد من الفقر المدقع طالما نامت زوجته مبسوطة، وخلف عبد الناصر ديكتاتور أسوأ يعتقل عشرات الآلاف ويفقر عشرات الملايين ويُلجم مصر بجنزير دبابة فلا تسمع لها صوتاً، وغرقت البلاد في فساد وكساد وفقر شديد وأصبحت الديون تزيد يومياً بشكل مرعب، وغرقت البلاد في حالة صدمة طويلة أشبه بالغيبوبة يهزها رفع علم في حفلة غنائية وكلمة من ممثل في مهرجان في الوقت الذي يُساقون فيه إلى كارثة حقيقية. 

 

المحزن فيما يحدث أن المتسببين فيما وصلنا إليه من تردٍ شديد لن ينتج عنه سوى كارثة بحجم هذا التردي يسارعون في تأمين أنفسهم وذويهم بعضهم ببناء قلاع وتحصينات في الصحراء تحميهم من أي انفجار محتمل أو تهريب الأموال للخارج للهروب وقت وقوع الكارثة، بينما سيتحمل تبعات تلك الكارثة المحتملة أبرياء لا ذنب لهم، بل سيُلقى عليهم مسؤوليتها وهو ما نراه اليوم من تصريحات المسؤولين المجرمين الغارقين في الفساد الذين لا يرون سببا فيما وصلت إليه مصر إلا كسل شبابها أو زيادة أعدادهم ولا يرون في قراراتهم الفاسدة ونهبهم المال العام لأنفسهم وذويهم وتضييعها في مشاريع فاشلة أي مسؤولية، فمتى تفيق مصر من غيبوبتها أم أن الكارثة ضرورة حتى تفيق؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.