شعار قسم مدونات

نهاية تاريخ البؤس العربي

blogs - المجاعة في اليمن
على غرار أطروحة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير التي خلص فيها إلى فكرة مفادها أن النظام الرأسمالي الليبرالي الغربي يشكل مرحلة نهائية في التطور العقائدي للجنس البشري، أي أن الوصول إلى هذا النظام هو نهاية التاريخ، يشي غرق المشهد العربي الحالي في دومة التشرذم وحالة التيه على نهاية التاريخ في بلوغ البؤس، فأعلى مراتب البؤس هي ما تعيشه الشعوب العربية حالياً، حيث لا يمكن تصور بؤس آخر أشد وطأة مما هو عليه الآن في المنطقة العربية.

سيجتاح البؤس هذا العالم المتطور كما سيغدو التطور أكثر تماهياً مع الحياة، هكذا تتنبأ أحدث التقارير الصادرة عن مراكز بحثية رصينة وذات صلة بصنع القرار في الدول الغربية، حيث ترى بأن العشرين عاما المقبلة ستشهد تزايدا في صعود الهويات والقوميات الفرعية والميل الشعبوي، وستبرز كنتيجة لذلك في المدى القريب حالة من التشرذم والتفكك وتأكل تقاليد التسامح والتنوع في مناطق مختلفة من العالم بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. أما المنطقة الأكثر براعة في خلق مزيد من بؤر التوتر في محيطها وهي منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية منها تحديداً، فستغدو مسرحاً لتعزيز السيطرة الاستبدادية وتأجيج صراعات الهوية والنزعات الانفصالية والتوترات الطائفية.

ويبدو من المنطقي أنه عندما تتشابه معضلات دول الشمال مع دول الجنوب؛ أي عندما تصاب بنفس الفيروس، فإن قوة مقاومة ذلك الفيروس تختلف اختلافاً جذرياً في دول الشمال عنها في دول الجنوب باختلاف وضعية نمط التفكير الخاص بنخبها أولاً ثم وضعية تلك الدول السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثانياً، فغالباً ما تنجو دول الشمال وتصاب دول الجنوب حتى النخاع.

في الحقيقة ليس ثمة واقع بئيس ينتظرنا أكثر مما نعيشه الآن. عمليا تبدو أغلب دول المنطقة العربية تعيش حالة غير مسبوقة من التشرذم

حيث دأبت دول الشمال على تجاوز المعضلات بطريقة آمنة وبكلفة أقل، فالنزعات الانفصالية في أوروبا وضعت تحت الاختبار أكثر من مرة، وظهر جلياً مدى حرص الأغلبية على التمسك بالهوية الجامعة إيماناً منها بأن ضمان تماسكها ووحدة شعوبها وتحقيق الرفاه لهم يمكن بالتسليم للقيم الديمقراطية التي تعترف بالتعدد والاختلاف وترى في التعدد الثقافي قيمة سامية ومصدرا للقوة، وفي المقابل بدت الجماعات ذات الميل والنزعة الانفصالية في خضوع واحترام لرأي الأغلبية الذي عُبر عنه بوسائل ديمقراطية.

وعلى الرغم أيضا من توفر الظروف المواتية لنمو اليمين الشعبوي المتطرف في أوروبا الذي يتبنى خطابات معادية لمؤسسات النظام السياسي ونخبة المجتمعية على نحو فج، بدا في انحسار وتراجع مستمر حيث تلقت الأحزاب ذات المزاج الشعوبي صفعات قوية في الانتخابات التي شهدتها بعض الدول الأوروبية التي كانت مرشحة لصعود اليمين المتطرف ابتدءا من انتكاسته في هولندا مرورا بفوز ماكرون في فرنسا، ويبدو أنه ليس أخيرا في ألمانيا بعد تقدم الحزب الذي تقوده أنجيلا ميركل (الاتحاد الديمقراطي المسيحي)! في الانتخابات الأخيرة.

وفي ظل تلك النظرة المتشائمة التي تنتظر العالم والمستندة على أرضية صلبة في عملية الاستشراف، يبدو من المنطقي التفكير في أي مستقبل ينتظر المنطقة العربية، والدول التي تلعب رأس حربة في توجيه مساراتها ذات الأبعاد المختلفة الأمنية والسياسة والاقتصادية والثقافية؛ أقرت مؤخراً لمواطنيها حقوقا تعتبر في سياق عصرنا الراهن من سياق الحقوق التي سبق وأن اُقرت في القرن السادس عشر وما زالت شعوبها تناضل بصمت مشوب القتل أحياناً والاعتقال المميت حيناً آخر من أجل السماح بحقوق أخرى أقل شأناً من أن يصدر بشأنها أمرا سامياً؟!

وبدون الحاجة إلى برج رقابة عالي يمد بصره بعيداً ليكون قادراً على تحديد كمية المخاطر المرتقبة، فأن ذلك التأخر الكبير في ركب قاطرة التطور مع العالم يعكس بوضوح حالة البؤس التي ستكون عليها المنطقة العربية غداة تزايد حدة تلك الأخطار.

في الحقيقة ليس ثمة واقع بئيس ينتظرنا أكثر مما نعيشه الآن. عمليا تبدو أغلب دول المنطقة العربية تعيش حالة غير مسبوقة من التشرذم، فما كان يمكن أن نسميه في الماضي تهديداً للوحدة الترابية والوطنية للدولة القطرية العربية (التي يفترض بها على الأقل أن تظل وفيه للتقسيم الاستعماري الذي فرضته اتفاقية سايس بيكو) بات واقعاً ملموساً وأن كان ينقصه الطابع الرسمي. ومع التسليم بالأسباب المختلفة لبروز النزاعات الانفصالية، فإن العامل الأساسي يرجع إلى غياب الآليات الديمقراطية في تسيير الشأن العام العربي، الذي أدى بدوره إلى عجز كثير من الدول العربية عن احتواء الأقليات الإثنية بداخلها، والتي أصبحت في ظل شعورها بنوع من الضيم تغذية مساندة بعض القوى ذات المصلحة في تفتيت العالم العربي تنزع إلى الانفصال.

بات اليمن بعد التدخل السعودي ينقسم عملياً إلى ثلاث مراكز لاتخاذ القرار و كل مركز قابل لتفكك إلى أجزاء عدة، وتعيش ليبيا تقريباً وضعاً مشابها
بات اليمن بعد التدخل السعودي ينقسم عملياً إلى ثلاث مراكز لاتخاذ القرار و كل مركز قابل لتفكك إلى أجزاء عدة، وتعيش ليبيا تقريباً وضعاً مشابها

غير أن ارتكاز بؤرة التحديق أو زاوية النظر التي ينبغي البناء عليها في تحديد طبيعة التأثير الذي يمكن أن تلعبه تلك القوى ذات المصلحة في تفتيت العالم العربي، على نظرية المؤامرة خطأ بالغ الضرر ويجعل من أدرك المسألة في سياقتها الواقعية مهمة صعبة ومحفوفة بمخاطر ومنزلقات الاختزال الشنيع أو التعميم السلبي، ذلك أنه ولئن كان ليس (من غير) المستبعد أن يكون للمؤمرة أثراً في توليد مسار التحولات المرتقبة ابتداء ومن ثمة توجيهها أنتهاء، فإن المبالغة في اعتبارها عاملا حاسما تفضي الضرورة إلى بناء استنتاجات خاطئة. إذ يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن المنطقة العربية ما زالت تتحكم بمصائر شعوبها بعض دول عفى على نمط تفكيرها زمن سحيق. تتماها بصورة بالغة التهكم مع العدو التاريخي للعرب، وتهرع على نحو فج لتعزيز علاقاتها به في صورة جعلته يعتقد بسذاجة طرحه في اعتماد نمط تفكير استراتيجي لتفتيت المنطقة فالأمر يبدو أسهل مما ينبغي!

لا تملك تلك الدول سوى المال وبه تستعد لإجهاض أي مشروع عربي آخر يحاول مسايرة ركب قاطرة التطور أو على الأقل أن ينأى بنفسه من حالة التيه وانسداد الأفق في بلورة رؤية متماسكة يمكن البناء عليها لمستقبل أقل بؤساً.

في الحاضر وكامتداد تاريخي أيضاً ألحقت تلك الدول ضرراً بالغ السوء بكل محيطها العربي، وكانت مصدر بؤسه الرئيس، وفي استعراض سريع لواقع حالة البؤس في المنطقة العربية وبإشعاع مباشر من ذلك المصدر. فاليمن تأتيه ريح سوداء بذريعة الإنقاذ محملة بالموت والتقسيم من حدوده الشمالية، حيث غدا اليمن بعد التدخل السعودي ينقسم عملياً إلى ثلاث مراكز لاتخاذ القرار و كل مركز قابل لتفكك إلى أجزاء عدة، وتعيش ليبيا تقريباً وضعاً مشابها لجهة التفكك الطاغي على المشهد السياسي فيها، وتجني العراق ثمرة الحكم بالنفس الطائفي، حيث باتت قاب قوسين أو أدنى من انفصال إقليم كردستان العراق، وتعيش سوريا أيضا أوضاعا أكثر سوداوية وقتامة، والحبل على الجرار في بقية الدول العربية، أما بسبب صعود القوميات الفرعية فيها أو بسبب استبداد أنظمة الحكم الأوليغارشية لمكونات اجتماعية معينة.

وكل ذلك يجعل من استشراف مراكز التفكير بالمستقبل أمراً متجاوزاً في الحالة العربية، حيث إن واقعها يسابق الزمن باتجاه البؤس الأخير. فبِأيِّ بُؤسٍ بَعْدَهُ تُؤمِنُونْ؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.