شعار قسم مدونات

مؤامرة الشيخ جاكسون

blogs الشخ جاكسون

يوم الخميس 25 يونيو صباحا عام 2009، كان الزمان لا يزال هادئا نسبيا، لم يكن هناك كوارث ومصائب بهذا الشكل الكثيف الآن، نعم كان هناك كوارث لكنها الحد الأدنى والاعتيادي من الكوارث، وكانت الحياة تسير كالنهر الهادئ، لكن يحدث أن حصاة صغيرة تحول سطح الماء الساكن لشكل متموج من الدوائر المتحركة والمتداخلة، حينها لا يعود الأمر كما كان من قبل.

 

كانت تلك الحصاة الصغيرة التي قلبت حياة شاب ملتزم وإمام مسجد متزوج. شيء في منتهى الغرابة حيث كان خبرا في الراديو عن وفاة المغني مايكل جاكسون الذي هزَّ العالم. كانت هذه هي بداية أحداث فيلم "الشيخ جاكسون" الذي رُشح ممثلا للسينما المصرية لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي.

 

والفيلم من إخراج وتأليف عمرو سلامة، وأبطاله الرئيسيون هم الممثل المثير للجدل أحمد الفيشاوي، وأحمد مالك، وماجد الكدواني، وتدور أحداث الفيلم حول شاب ملتزم وملتحي وإمام مسجد ويعمل في تسجيل الشرائط الدينية يقوم بدوره الممثل أحمد الفيشاوي، لكن حين يسمع هذا الشاب خبر وفاة المغني الأميركي الشهير مايكل جاكسون، تنقلب حياته رأسا على عقب ويتعرض لأزمة نفسية حادة، حيث تهاجمه الكوابيس والتخيلات والهلاوس، ويفقد خشوعه في الصلاة، بل يقترب من أن يفقد إيمانه.

 undefined

يقرر الشاب الذهاب لطبيب نفسي ليجد عنده علاج لما يعانيه بعد أن فشلت كل الطرق في استعادة حياته الهادئة وخشوعه في الصلاة، فتحثه الطبيبة التي تقوم بدورها الممثلة "بسمة" لأن يستعيد ذكريات طفولته ومراهقته، فتفتح الطبيبة الباب لسيل من الاضطرابات والعذابات التي عاناها الشاب في طفولته ومراهقته نتيجة وفاة أمه وعلاقته المضطربة مع أبيه.

 

حتى الآن يمكن أن ننظر لفيلم "الشيخ جاكسون" كفيلم مصري عادي، يُظهر الصورة المعتادة للملتزمين والمتدينين الملتحين كأفراد مضطربين يعانون من الغربة ويعادون المجتمع بالكامل، كما دأبت السينما المصرية على إظهار تلك الصورة، ودأب الإسلاميون على ترديد أن تلك الأفلام تشوه صورتهم وتتآمر عليهم.

 

لكن يفاجئنا المخرج عمرو سلامة بمعالجة جديدة دقيقة شديدة الواقعية، حيث يبني فيلمه بالكامل على دراسة نفسية مركبة يصبغ بها فيلمه، محاولا إظهار الأبعاد النفسية لذلك الشاب الملتزم، ويحاول الغوص داخل روحه وعقله لإظهار ما يعانيه وكيف ينظر لنفسه ولحياته وكيف ينظر للعالم.

 

وفي بنائه للفيلم، يُخلص المخرج لأبطاله، فيرسم الشاب الملتزم كشاب مخلص، زاهد، يعاني معاناة نفسية شديدة، ويبعده عن صفات النفاق والرياء والادعاء والمكر والخبث التي ظهر بها المتدينون في باقي الأفلام المصرية.

 

فصمم المخرج عمرو سلامة فيلمه الشيخ جاكسون على نظرة نفسية واقعية يشعر بها كل من مر بتجربة تدين أو اختلط بملتزمي جيل الثمانينات والتسعينات، وقد صبغت الثيمة النفسية الفيلم كله، بيد أن الفيلم قام على أربع ركائز أو ثيمات نفسية أساسية:

 

أولا: إصابة البطل في مرحلة مراهقته بعقدة نفسية نتيجة مشاهدة جزء من حياة أمه الجنسية مع أبيه، حيث يطلق علم النفس على تلك العقدة "عقدة أوديب" لكن في الفيلم لم يكن الأمر نتيجة غيرة الطفل على أمه، بل نتيجة مصارحة الأب للطفل لأمور الجنس وممارستها أمامه بشكل يحتوي على عنف رمزي، جعلت الطفل ينكر ذلك الأمر كله داخل عقله الباطن، ويتمسك بصورة ملائكية لأمه، وزرعت داخله خوفا دائما من تكوين العلاقات خاصة فيما يتعلق بأمور الجنس، وهو الأمر الذي سيجعله يتعامل مع زوجته بشكل جاف فيما بعد.

 

استخدم المخرج ثيمة
استخدم المخرج ثيمة "الأبوة" لإظهار الاضطراب الذي عاناه البطل "أحمد مالك" في مرحلة مراهقته وعلاقته غير السوية بأبيه، حيث يرى الأب ابنه كامتداد له، فينزع عنه أي شخصية مستقلة
 

ثانيا: كانت الثيمة أو الركيزة الثانية التي استخدمها المخرج هي ثيمة "الأبوة" وهي الثيمة الأدبية التي استخدمها عدد من مشاهير الأدباء العالميين مثل كافكا وديستوفسكي ونجيب محفوظ وغيرهم، حيث إن الأبوة هي أول سلطة يواجهها الطفل في حياته وهي معركته الأولى التي ترسم مسار حياته فيما بعد، حيث سيحفل الأدب بتصوير هيمنة الأب بشكل ذكوري فج على حياة الأبناء لدرجة أن حياتهم تتحول لجحيم لا يطاق.

 

ويستخدم المخرج تلك الثيمة لإظهار الاضطراب الذي عاناه البطل في مرحلة مراهقته وعلاقته غير السوية بأبيه، حيث يرى الأب ابنه كامتداد له، فينزع عنه أي شخصية مستقلة ويجبره أن يصبح مثله في كل شيء ويجبره على تحقيق الأحلام التي فشل الأب في تحقيقها، ويظهر ذلك في الفيلم في طريقة تعامل الأب "ماجد الكدواني" مع الابن "أحمد مالك" حيث أراد أن يجبره على أن يحيا مثله، وأن يمارس لعبة كمال الاجسام التي فشل الأب في ممارستها قديما، بل يتعمد الأب أن ينزع أي خصوصية عن الابن فيخبره دائما ألا يغلق الباب بإحكام، وفي مشهد معبر يجرد الأب ابنه من ملابسه كلها وينزع الباب من مكانه، كتعبير فج عن هيمنة الأب على حياة ابنه، ونتيجة لتلك الهيمنة تتكون لدى الابن عقدة مثل عقدة رواية "لن أعيش في جلباب أبي" وينمو بداخله نزوع للتمرد والهرب من ذلك الجحيم.

 

ثالثا: استخدم المخرج ثيمة "التمرد/الاحتقار" الذي سيتولد داخله نتيجة تلك العلاقة المضطربة مع أبيه، فعندما لم يتلق الابن أي قدر من الاحترام أو الحب أو الحنان من أبيه، يفقد الشعور بالحب وبالتالي يفقد ثقته بنفسه تماما، وتولد بداخله طاقة غضب كبيرة ضد كل شيء: ضد أبيه والظروف وحياته، ضد العالم كله، فيقرر التمرد على تلك الحياة، هنا يجد الابن شيئا محببا له، "الموسيقى" وخاصة شيء يذكره بصورة أمه الملائكية، والتي أخبرته من قبل أنها تحب موسيقى "مايكل جاكسون". وفي نفس الوقت شيء مكروه لدى أبيه، حيث يصف أبيه المغني مايكل جاكسون بـ"المخنث"، فتتداخل كل تلك العوامل لدى البطل ويجعل من "مايكل جاكسون" وموسيقاه أيقونة تمرده على حياته وملجأ هويته المفقودة والمضطربة.

 

يحسن المخرج هنا اختيار مايكل جاكسون كأيقونة، حيث إن مايكل جاكسون كان يمثل ثورة في عالم الغناء والتمرد على الثوابت، وهو أكثر مغني متوافق مع الشخصية، مغني يبحث عن هويته ويغني لقيم العدل والسلام والمحبة لكنه يقدم غنائه بشكل مثير من الرقص يهدم كل الثوابت القديمة، وقد كانت شهرته كبيرة جدا في تسعينات القرن المنصرم، حتى إنني كنت أملك صورة كبيرة له في طفولتي.

 

لكن وبعد أن يكتسب الطفل من أيقونة جاكسون ما يريد أن يحققه من التمرد، يقرر أن يترك حياة أبيه ويترك منزله القديم ويترك الإسكندرية التي سيكون حضورها فعال جدا في الفيلم كما سنرى، ويقرر أن يسافر لخاله في القاهرة والذي كان يعطف عليه ويعتبره مثل ابنه.

 

ينتهي الفيلم نهاية غير موفقة بتصالح الشخصية مع ماضيها، لكن المخرج يغفل أو يتغافل عن أن هذا الصراع النفسي الذي يعيشه البطل سيستمر معه طوال حياته
ينتهي الفيلم نهاية غير موفقة بتصالح الشخصية مع ماضيها، لكن المخرج يغفل أو يتغافل عن أن هذا الصراع النفسي الذي يعيشه البطل سيستمر معه طوال حياته
 

تنتقل هنا شخصية البطل من وجه التمرد على حياته وعالمه والتطرف فيه إلى الوجه النقيض وهو احتقار العالم والعمل على تغييره كله تغييرا جذريا، فسينتقل البطل من "جاكسون" لشاب ملتزم وإمام مسجد، متطرف في رفضه لشكل الحياة، لكنه يحتفظ بالجزء المتمرد من شخصيته ويظهر ذلك في متابعته المستمرة لصور زميلته التي أحبها في فترة مراهقته وفشل في إخبارها بمشاعره بسبب خوفه.

رابعا: الثيمة الرابعة التي استخدمها المخرج هي ثيمة "النوستالجيا/الحنين للماضي" وهي الثيمة التي سوف تملأ الفراغات وتساعد المخرج في تركيب ثيماته الثلاثة بشكل سينمائي، حيث ستلعب مدينة الإسكندرية هنا دورا أساسيا في رسم تلك الثيمة، وهذا أمر يعلمه كل من عاش بمدينة الإسكندرية وما تزرعه داخل ساكنها من حنين دائم، وترتبط صورة الإسكندرية لدى البطل بشخصية الإنسان المظلوم والضحية أو المجني عليه، الذي يخاف استدعاء الماضي ويريد أن ينساه لكنه يستدعيه أحيانا بشكل غير واعي من خلال كوابيس وماكينازمات نفسية للوم النفس وجلدها، ثم تستعين النفس بذلك على التطهر والدعوة لإصلاح العالم، وهذا ما فعله البطل حيث كان حنينه لأمه ولبيته القديم وطفولته والإسكندرية القديمة، وحتى حنينه لموسيقى مايكل جاكسون هو شعوره الدائم بالحاجة للتمرد على حياته الرتيبة، وهنا يتضح كيف استخدم المخرج هاجس جاكسون ليوضح ذلك الصراع داخل شخصية البطل.

 

ينتهي الفيلم نهاية غير موفقة بتصالح الشخصية مع ماضيها، لكن المخرج يغفل أو يتغافل عن أن هذا الصراع النفسي الذي يعيشه البطل سيستمر معه طوال حياته، وهنا يظهر السؤال هل أراد الفيلم فعلا أن يتآمر على شخصية الشاب الملتزم حين عرض الأزمة والصراع النفسي الذي يعيشه بين ماضيه وحاضره وبين الواقع وتصوراته وبين ما يريده وما يخافه، أم أن الوسط الإسلامي أو وسط الملتزمين هم الذين تآمروا على حياة آلاف من مثله؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.