شعار قسم مدونات

مواسم الغياب

Blogs- sitting

هُناك، حيث تتساوى الحياة مع الموت، حين نفقد قدرتنا على الموت ورغبتنا في الحياة، تلك هي المسافة صِفر، نقطة اللا شيء من كل شيء، حين لا نستطيع التراجع ولا المضي قُدمًا في جولاتٍ جديدة قد نخسر فيها أو نربح، جولاتٌ لا يمكننا أن نُراهن فيها على أنفسنا بالصبر أكثر، في بُقعةٍ ما في صميم الروح نكمن نحن، نُشرق منها ونُظلم فيها، تلك هي مساحتنا الخاصة، إن كساها السواد وعم فيها الذبول لن نستطيع المقاومة في الحياة أكثر، لا بقاءَ لنا بلا شغفٍ نستنيرُ به، ولا قوةَ لنا بلا إلهامٍ يُنقذنا من غياهبِ الانكسار وسطوة الفتور القاتل.

 

هل حقًا للغياب مواسم أم أنه الاكتئاب بحد ذاته؟ أم من تعريفٍ لحالةِ الفتورِ والبلادةِ التي تُصيبنا هذه! هل نحن أُناسٌ طبيعيون؟ أعتقدُ أن للغياب مواسم لا تفقد صلاحيتها، لا ترتبط بكيفٍ ولا كمٍ، لا يُقيدها زمانٌ ولا مكانٌ ولا حتى إنسان، هي الروح التي تميل إليه لتعيد ترتيب أبجدياتها في الحياة، بلا ضغوطات من أحد ولا تأثيرات، نستظلُ بغطاءِ الوحدة، نَقسو على أنفسنا إن أخطأت، ونُعدل اعوجاجها إن مالت، منا وإلينا فينا وبنا، ننتصر لِأُلفَة أرواحنا وسلامها الداخلي وحدنا.

 
لعل انحساراتنا في منعطفات حياتنا الضيقة آخذة إيانا معها في الحدة والقسوة، سيرنا في دوائر حياتنا المغلقة يبعث فينا ألم الدوار وكأننا نتقدم إلى الوراء! فإما أن نخرج من حلقات الاكتئاب ودوائره المليئة بالحزن إلى الفضاء الرحب أو نبقى أسرى لأنين الصمت الموجع ليل نهار! في مواسم الغياب، أخافُ عليَّ مِن نفسي ومن قلبي ومن يأسي ومن ضعفي ومن صبري ومن تقلُباتِ شتاءٍ عاصفٍ في موسمِ صيفٍ بائسٍ جاف.. لستُ أدري متى ينتهي خريفه، كالأشجارِ نحن، يقتلنا الجفافُ، وتهزنا ريحُ الحياةِ، نحتاجُ دومًا إلى الثبات لنواصلَ البقاء كجذورها أقوياء، نرتوي بالثقةِ والانتماء، نلينُ كما أوتادها ولا نقبلُ بالانكسار.

      

نحن بشر ولسا دمىً مجردة أو آلاتٍ ميكانيكيةٍ قادرة على التكيف في كل الظروف والعمل بلا أخطاء
نحن بشر ولسا دمىً مجردة أو آلاتٍ ميكانيكيةٍ قادرة على التكيف في كل الظروف والعمل بلا أخطاء
 

لا سبيل لنا إلا الغياب، غيابٌ قد يطولُ وقد يقصرُ، قد ينمو وقد يذبل، لنُعيد لملمةَ ما تبقى فينا من حياة، لنمنع أنفسنا من الانزلاق أكثر، لنكون نحن لا هم، لنكون كما نريد لا كما يريدون. أشتاق حضورًا قويًا يُنسيني وجع الغيابِ هذا، وما زلتُ أُعاقبُ نفسي باللاحضور، وأبحرُ في وديان النسيان وحدي علَّ سفينتي تمضي فما عاد الشراعُ يقيني زلات العواصف ولا خوف النجاةِ من الحياةِ، لستُ أتقبل فكرةَ أنَّ نكون أشخاصًا عابرون والسلام، كيف نَمُرُّ مرورَ الكرامِ بلا أثرٍ ولا بصماتٍ تُترَكُ فوقَ أديمِ هذه الأرض وتُغرس في قلوب أصحابها، هذي الروح تحتاجُ نفسًا عميقًا نقيًا يُطهِّرُ بقايا تلك الندباتِ والجروح التي لم تلتئم بعد.

        
يحدث أن تدفعنا الحاجة إلى الانصهار في بوتقة الغياب، لا نبالي بالغربة بقدر حاجتنا إلى النقاء، نكون نحن على سجيتنا، بلا ضحكات زائفة ولا ابتسامات مصطنعة، لا نحتاج حينها إلى ارتداء قناع الاجتماعيات والمجاملات الناعمة بأننا بخير، بعيدًا عن الأعين التي تراقب حياتنا والنفوس التي تحبنا أو تكرهنا نحتاج أن نعترف لأنفسنا بأننا لسنا على ما يرام، قد نحتاج إلى إغلاق هواتفنا والذهاب بعيدًا عن ضجة مواقع التواصل الاجتماعي، نحاول الفرار من استهلاك مشاعرنا بالأخبار المفرحة تارة والمحزنة تارة أخرى، نحن بشر ولسا دمىً مجردة أو آلاتٍ ميكانيكيةٍ قادرة على التكيف في كل الظروف والعمل بلا أخطاء، لنا قلوب مرهفة الإحساس، تتألم بالأخبار المزعجة، وتخاف نذير شؤم ما زال يحوم بالحرب من كل فج وميل، بربكم رفقا بنا وبإنسانيتنا. 

      
للحضور مواسمٌ أخرى أيضا، طُوبى لمن ناضل كثيرًا من أجلِ إحيائها فينا، شكرًا مديدٍا لأولئك الذين لم يتوانوا يومًا عن إخراجنا من مواسم الغياب هذه، أولئك الذين يحاولون إخراجنا من بوتقة الصمت القاتل إلى عفوية الكلام وبراءة الأفكار، فهذا الشفاء ما أثمر من فراغ، كم قد قسونا عليهم من أجل تركنا في وحدتنا هذه! ولكنهم آثروا البقاءَ وكانوا سبيلنا للتفاؤل والنجاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.