شعار قسم مدونات

فزعة عرب

Blogs- Palestine man

"تبدو الفراولة بالشوكولاتة مغرية جدا، بلاش تندمي"، قالت لي صديقتي وهي تطلب من البائع وضع مزيدٍ من الشوكولاتة المُرّة على حبة الفراولة، وما إن جلسنا وهممنا بالأكل حتى أبعدت صديقتي الفراولة المكسوة بالشوكولاتة عن فمها منزعجة، ورمتها في علبة الكرتون الصغيرة على حضنها، قائلة بضحكةٍ لا تخلو من السخرية: مثل "فزعة عرب بالزّبط"، وهي تنظر إليّ إشارةً لحوارٍ حديثٍ جرى بيننا عن المصطلحات والعادات الجميلة التي نتميز بها كعرب لكننا ننزع طعمَها الأصيل اللذيذ بتصرفاتنا المرّة.

        

نعم، كثيرةٌ هي تلك العادات الجميلة التي تُميزنا كعرب، ولا أقول هذا كضربٍ من العنصرية بل أقُله وعن تجربة لمّا خالطتُ أفراداً من جنسياتٍ أخرى وبدت بعض البديهيات لدينا وأدناها ضيافة الغريب وإكرامه عادةً غير واردة على أجندة الآخرين إطلاقًا، لا بل أن بعضهم قد يحولها إلى "بيزنس" يقتات منه، وعليه قس. كما ولا أكتب ما سأكتب من باب تقديس العادات، فكثير من العادات بحاجة إلى استئصال عندما تكون عاملَ هدمٍ وتعطيل لدورِ الفرد والمجتمع لا عاملَ بناءٍ وتطوير. والسؤال هل نتنكّرُ لعاداتنا الحسنة ونتنصّلُ من عروبيتنا ونجلد ذواتنا إذا ما لُوثت بأفعال البعض المشينة؟ أم أنه من الأجدر بنا أن نعيدَ النظر فيها مجددًا ونحاول بعثها من جديد وننفض الغبار عنها؟ تعالوا إذن نأخذ "فزعة عرب" محل الذكر أعلاه، نموذجًا.

             

في اللغة وبحسب معجم لسان العرب يقال فَزِعَ إِلى القوم: استغاثهم. وفَزِعَ القومَ وفَزَعَهم فَزْعاً وأَفْزعَهم: أَغاثَهم، قال زهير: إِذا فَزِعُوا طارُوا إِلى مُسْتَغِيثِهمْ، طِوالَ الرِّماحِ، لا ضِعافٌ ولا عُزْلُ ومثله للراعي: إِذا ما فَزِعْنا أَو دُعِينا لِنَجْدةٍ، لَبِسْنا عليهنّ الحَدِيدَ المُسَرَّدا فقوله فَزِعْنا أَي أَغَثنا. وفي حديث الكسوف: فافْزَعُوا إِلى الصلاة أي الجَؤُوا إِليها واستَعِينُوا بها على دَفْعِ الأَمرِ الحادِثِ، والفَزَعُ أيضاً: الإِغاثةُ، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم للأَنصار: إِنكم لتكثرون عند الفَزَعِ وتَقِلُّونَ عند الطمَعِ أَي تكثرون عند الإِغاثة، وقد يكون التقدير أيضاً عند فَزَعِ الناس إِليكم لتُغِيثُوهم.

      

قال ابن بري: وقالوا فَزَعْتُه فَزْعاً بمعنى أَفْزَعْتُه أَي أَغَثْتُه، وفي حديث فضل عثمان: قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لي لم أَركَ فَزِعْتَ لأَبي بكر وعمر كما فَزِعْتَ لعثمان؟ فقال: عثمانُ رجل حَييٌّ، يقال: فَزِعْتُ لِمَجيءِ فلان إِذا تأَهَّبْتَ له متحوِّلاً من حال إِلى حال كما ينتقل النائم من النوم إِلى اليقظة. وعليه فإن الفزعة هي عمل الخير في المجتمع، وهي مؤشر للتكاتف والتماسك الاجتماعي، ما يؤكده ابن خلدون في مقدمته بقوله إن المجتمع وعمرانه لا يمكن أن يظهرا إلى الوجود من خلال تفرق جهود الأفراد وتبعثرها، فالإنسان الذي يدرك بفطرته سبل عيشه، يدرك كذلك ضرورة تعاونه وتماسكه مع الجماعة، إذ ليس بمقدور كل إنسان أن يوفر حاجاته لنفسه.

                 

"فزعة عرب" هي صوتٌ يلبّي استغاثةَ الأحرار وقت الشدة. هي صوتٌ يفزع لظلم أخيه فيردعه، ولا يطبطبُ على ظلمه
          

"فزعة عرب" هي أن يجمع الأصدقاء لصديقهم الذي انقطعت به السبل قسطَ فصلٍ دراسي فلا يتأخر عن ركبهم في تخرجه. "فزعةُ عرب" هي جمع نساء الحارة مما فاض عن حاجتهن ومما عزّ عليهن حتى، لتأثيث منزل إحدى نساء الحارة التي لا معيل لها. "فزعة عرب" هي وقفة أفراد العائلة مع قريبهم في زفافه وإعانته لاستكمال متطلبات زواجه التي لا يملك حدّها الأدنى. "فزعةُ عرب" هي الملايين التي يجود بها عامةُ الشعب عبر حملاتٍ خيرية إعلامية لإغاثة شعبٍ آخر أنهكته الحروب والنكبات.

            

"فزعة عرب" هي شابٌّ يفزع بين اثنين تشاجرا في الشارع إذ استطاع، ولا يكتفي بالنظر أو تصوير المشهد الدرامي. "فزعة عرب" هي صوتٌ يلبّي استغاثةَ الحرائر وقت الشدة. "فزعة عرب" هي صوتٌ يفزع لظلم أخيه فيردعه، ولا يطبطبُ على ظلمه. "فزعةُ عرب" هي ضميرٌ نفَسُه طويل، مستدامٌ لا مقطوع. "فزعة عرب" هي عقلٌ يسمع نداءَ الحاجة فيهرع: لبيك، في صورةٍ فيها أبهى تقدير لقيمة "الحب" من الأهل والأصدقاء والجمهور والمجتمع. تلك العاطفة منبع قوة الأفراد والحضارات إذا ما أُحسن استثمارها لا استغلالها. أو َما رأيت كثرة الخادشين لرقّها -عاطفة الحب-  تحت مظلة الزوجية أو العمل التجاري أو الديني أو الوطني منه!

         

"فزعة عرب" إذن ستبقى تلك الطبيعة البشرية في التضامن الإنساني مع الآخرين، بنكهتها الأصيلة، بعيدًا عما قد تسلبه منّا المدنيّة القاتلة من قيمة الإحساس بالآخرين، وبعيدًا عما قد يحجبه عن بصيرتنا ترداد النصوص حفظًا لا فهمًا ووضعها في غير سياقها "كانصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" أو "لا تعينوا الشيطان على أخيكم" أو "دعوا الخلق للخالق" فترانا نفصّل ثوب الفزعة بحسب الأهواء لا بحسب ما ينطق به العقل أو البصيرة.

           

ففزعة العرب هنا أن نملكَ من القوة والمساءلة القانونية ما يمكّننا من فتح ملفات العديد من قضايا المتاجرة والاستغلال التي أُلصقت على ظهر الحب أو الدين أو الوطن أو النضال والثورة، وتحريكها إعلاميّا وبنفَسٍ طويل دون مواربة، كي تكون ردعًا لكل أولئك المتاجرين بأغلى ما تملك شعوبنا العربية "العاطفة". ندركها جيدًا إذن حين نعي أنها جزءٌ من مسؤوليتنا المجتمعية دون محاباة، حين نستشهد بها في مواضع المدح الحقيقي لا التهكمي ومواضع الانتقاص، تمامًا كما نستطيع أن نأكلَ قطعة الفراولة بحلاوتها الطبيعية دون الحاجة لأي إضافات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.