شعار قسم مدونات

لا أمان إلا للعدل

blogs الأمن المركزي

في سبتمبر من عام 1936 قام الديكتاتور جوزيف ستالين بعزل رئيس شرطته السرية جينريك ياغودا والذي عُرف بإجرامه وتلذذه بتعذيب واغتصاب وإعدام ضحاياه بنفسه، وأرسل الملايين إلى معتقلات الجولاك الموحشة في سيبيريا بأحكام خيالية تصل إلى 25 سنة، إلا أنه لم يُكن بالإجرام الكافي الذي يرضى عنه الديكتاتور، فقام بتعيين نيكولاى يجوف والذي قال في بداية توليه المنصب "ياغودا قتل رُبع مليون إنسان.. ياله من رقم تافه، أنا سأحصد الملايين"، حتى أن سلفه ياغودا نفسه كان أحد ضحاياه، والذي تم تعذيبه وإجباره على الاعتراف بالخيانة وأعدمه رمياً بالرصاص.

 

عُرف عن يجوف إجرامه ووحشيته وجنونه بالتعذيب والقتل والتقارير الأمنية المزورة، وكان يتلذذ بقطف الرؤوس وتدبير الدسائس حتى لأقرب المقربين من الديكتاتور، وكانت قرارات الإعدام بالرصاص تنهال على مكتب ستالين تمتلئ بعشرات الألاف من الضحايا الذين يُلقون مصرعهم يومياً رمياً بالرصاص أو رمياً في معتقلات الجحيم البارد، حتى قُدر عدد الضحايا في عهد هذا الديكتاتور بين 20 و40 مليون قتيل، أي أن هناك 1830 قتيل يومياً على الأقل، كان منهم معارضين ومقربين وملايين لا علاقة لهم بشيء، فانتشر الرعب في الشوارع وأصبح الحديث في السياسة السبيل الأسرع للموت والتعذيب، وبعد أن أدى يجوف دوره القذر بامتياز جاء الدور عليه، فتم عزله من منصبه ثم القبض عليه، وتحت التعذيب اعترف بعشرات التهم والجرائم وتم رميه بالرصاص في نفس المكان الذي أعدم فيه سلفه ياغودا.

 

أحد الصور التي تجمع بين الديكتاتور جوزيف ستالين ونيكولاى يجوف  (مواقع التواصل)
أحد الصور التي تجمع بين الديكتاتور جوزيف ستالين ونيكولاى يجوف  (مواقع التواصل)

لعل أشهر ما في تلك الأحداث الدرامية والنهايات الإغريقية أن اسم يجوف قد مُحي من السجلات وقاموا بمحو ذكره حتى أنهم أزالوا صورته من كل الصور التي جمعته بستالين حتى لا يكون له أي أثر يجمعه بالديكتاتور، فإذا بحثت عنه ستجد العديد من الصور التي تجمعه بالرجل الذي ساعده في طغيانه وقد مُحي منها، وهكذا حال الكثيرين من أعوان كل ظالم، لن تأمن مكره أبدا، ومهما بلغ قُربك منه لن تسلم من بطشه الشديد.

 

خلال الشهور الماضية اتخذ الأمير السعودي الجديد والشاب الطامح في عرش المملكة طريقه في إحكام قبضته على المؤسسات وقام باعتقال العشرات من المعارضين أو المشكوك في ولائهم وتدرج الأمر حتى وصل إلى أكبر أسماء في المملكة بل وبعضهم من أشهر الشخصيات في العالم، وقبيل القبض على أغنى رجل عربي والمتربع على عرش امبراطورية اقتصادية عظيمة الملياردير الوليد بن طلال أرسل رسالة إلى صديقه الكاتب الصحفي جمال خاشقجي يدعوه للعودة إلى البلاد ويطمئنه على نفسه بعد أن أصبح معروفاً غضب السلطة الجديدة عليه لانتقاده العديد من القرارات.

 

لعل الذين يتجبرون اليوم بالسلطة والنفوذ ويسبحون في بحور من المال العام يُصبحون بين غمضة عين وانتباهتها تحت الأقدام في لمحة بصر، ولكن من يعتبر؟

فقال له "أخي جمال، البلاد بحاجة إلى عقول نيرة مثلك، والآن الدولة السعودية الرابعة تبنى بيد أخي محمد بن سلمان، ويجب أن تكون معنا ونحن نبني فيها"، ولم تمر ساعات حتى أُلقي القبض على الوليد بصحبة العشرات من الأمراء والوزراء، ولعل أبرزهم بالنسبة لي رئيس الديوان الملكي السابق خالد التوجري الذي عُرف عنه دعمه الكبير للانقلاب العسكري في مصر ودعم الثورات المضادة في دول الربيع العربي، فتبدلت الأحوال وذاق جزء بسيط مما ساهم في اذاقته للملايين من الشعوب العربية.

 

نفس الحال في مصر، فهناك توفيق عكاشة الذي كان من أقرب المقربين لأجهزة المخابرات والقيادات العسكرية، حتى أن قائد الشرطة العسكرية وعضو المجلس العسكري السابق اللواء حمدين بدين قام بالاتصال به والاعتذار له على الهواء مباشرة يوماً ما، إلا أن ذلك لم يشفع له وتم عزله من البرلمان وإخفاءه عن الأنظار في لمحة بصر، وكذلك الدكتورة غادة الشريف التي استقبلت الديكتاتور العسكري بمقالها الشهير "انت تغمز بعينك بس" والتي استهلته قائلة "طالما السيسى قالنا ننزل يبقى هننزل.. بصراحة هو مش محتاج يدعو أو يأمر.. يكفيه أن يغمز بعينه بس.. أو حتى يبربش.. سيجدنا جميعاً نلبى النداء.. هذا رجل يعشقه المصريون!.. ولو عايز يقفِل الأربع زوجات، إحنا تحت الطلب.. ولو عايزنا ملك اليمين، ما نغلاش عليه والله"، واليوم يتم سبها على صفحات الجرائد القومية ويتم التحقيق معها بتهمة تهديد الأمن القومي.

 

كل تلك الأحداث والوقائع لا تقول سوى شيء واحد أن دولة الظلم لا أمان فيها لأحد، ولا سبيل للأمن سوى العدل للجميع، وخلال السنوات الماضية رأينا كيف تتبدل الأمور في لمحة بصر وكيف يُصبح كبار المسؤولين وأقرب المقربين لرأس السلطة خلف القُضبان، ولعل الذين يتجبرون اليوم بالسلطة والنفوذ ويسبحون في بحور من المال العام يُصبحون بين غمضة عين وانتباهتها تحت الأقدام في لمحة بصر، ولكن من يعتبر؟

 

نريد دولة عدل للجميع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.