شعار قسم مدونات

على الهامش (١).. هموم باحث عربي يدرس "الإسلام" بالغرب

blogs مكتبة

لا تكاد تخلو جامعة غربية الآن، إلا ما ندر، من قسم أو برنامج مخصص لدراسات الإسلام أو الشرق الأوسط. وقد ازداد الاهتمام بهذا الحقل المعرفي البيني بعد أحداث الحادي عشر من (سبتمبر/أيلول) ٢٠٠١ التي دفعت كثيرا من الباحثين الغربيين إلى الاهتمام بدراسة الإسلام والمسلمين. كما تم تخصيص منح دراسية للمهتمين بالموضوع، وتم طرح وظائف لأساتذة متخصصين في الدراسات الإسلامية وما يرتبط بها من أفكار وتنظيمات وجماعات في كبرى الجامعات الغربية… إلخ. وذلك حتى تحوّل الأمر إلى "موضة" بحثية ومعرفية يسعى الجميع لتقليدها.

 

وإذا كان الاهتمام بحقل الدراسات الإسلامية في الغرب، خاصة الكلاسيكيات كعلوم القرآن والفلسفة الإسلامية والفقه والتراث والفتاوى والشريعة والفكر الإسلامي… إلخ، قد بدأ منذ قرنين على الأقل، وذلك مع دراسات المستشرقين الأوروبيين خاصة الألمانيين والفرنسيين، فقد شهد هذا الحقل، ويا للمفارقة، إقبالا كبيرا من الباحثين العرب والمسلمين خلال العقود الثلاثة الماضية من أجل دراسة دينهم وتراثهم وثقافتهم في الجامعات الغربية.

 

وتُصيبك الدهشة حين تجد طالبا أو باحثا عربيا أو مسلما يدرس تراثه ودينه ليس في جامعة الأزهر بمصر أو الزيتونة بتونس أو الجامعة الإسلامية بماليزيا… إلخ، وإنما في جامعات ستانفورد وهارفارد وكاليفورنيا وجورجتاون والسوربون وبرلين الحرة وغيرها. ويقوم بتفكيك المقولات الكلاسيكية حول حقول المعرفة الدينية ليس على يد شيخ من شيوخ هذه الجامعات، وإنما على يد باحث أو أستاذ غربي لا يتحدث نفس اللغة، ولا يعرف تعقيدات المجتمعات العربية والإسلامية ولا يستشعر جوّانياتها.

 

أحد الفوارق الرئيسة بين أن تدرس بجامعة عريقة كالأزهر أو الزيتونة وأن تدرس بجامعة غربية يكمن ليس بمضمون الدراسة أو شمولية موضوعاتها بقدر ما هو بطرائق البحث والتفكير وكيفية تناول هذه الموضوعات منهجيا
أحد الفوارق الرئيسة بين أن تدرس بجامعة عريقة كالأزهر أو الزيتونة وأن تدرس بجامعة غربية يكمن ليس بمضمون الدراسة أو شمولية موضوعاتها بقدر ما هو بطرائق البحث والتفكير وكيفية تناول هذه الموضوعات منهجيا
 

ورغم أن ثمة شعورا بالأسى والإحباط يُصيبك من هذه المفارقة لكنه لا يلبث أن يزول حين تجد ذلك الباحث أو الأستاذ الغربي، أو بعضهم على الأقل، مُلِمًّا بموضوع البحث والدراسة أكثر من الطالب أو الباحث القادم إليه من بلد عربي أو إسلامي.

 

أذكر أنني عندما ذهبت لدراسة الدكتوراه في بريطانيا قبل سنوات التقيت بأحد أهم الأساتذة المتخصصين في حقل الدراسات الإسلامية، وهو البروفيسور "جيمس بسكاتوري"، الذي وضع بعض الكتب المرجعية في تفكيك الأبعاد السياسية والثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية، وعندما عرضت عليه مشروعي الأول لأطروحة الدكتوراه وكان حول "تفكيك البنية الاجتماعية للفتاوى في القرن التاسع عشر.. دراسة سيوسيولوجية نقدية"، دلّني على عدد من المراجع المفيدة في الموضوع والتي لم أكن قد سمعت بها من قبل، ولكنه نصحني بتأجيله إلى مرحلة ما بعد الدكتوراه كونه يتطلب وقتا وجهدا أكبر مما يتطلبه موضوع الدكتوراه، فكان أن غيّرت موضوعي كي أركّز على "البنية الهوياتية للحركات الدينية مع التركيز على جماعة الإخوان المسلمين في مصر" وهو ما حدث.

 

وبعد فترة من الدراسة في الغرب تكتشف أن أحد الفوارق الرئيسة بين أن تدرس في جامعة عريقة كالأزهر أو الزيتونة وأن تدرس في جامعة غربية يكمن ليس في مضمون الدراسة أو شمولية موضوعاتها بقدر ما هو في طرائق البحث والتفكير وكيفية تناول هذه الموضوعات منهجيا. لذا فإن أول ما تدرسه في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه بالجامعات الغربية، أو معظمها على الأقل، هو مقرر في مناهج البحث، وهو مقرر لا يُدرّس بشكل جاد في الجامعات العربية، إذا كان يدرّس أصلا. وهو مقرر تأسيسي أشبه بتمرين ذهني، وبمنزلة عملية تصفية وتنقية عقلية تهدف إلى إعادة ترتيب طريقة التفكير، بحيث يتم فرز الذاتي عن الموضوعي في مجال البحث والدراسة.

 

تجد بعض المصادر الكلاسيكية بالجامعات الغربية غير متوافر بسهولة بالمكتبات العربية، وذلك إما نتيجة لأسباب تتعلق بالحقبة الكولينيالية وما نهبه الاستعمار من مخطوطات وكتب، وإما نتيجة لعدم وجود طبعات حديثة

وما زلت أذكر كيف ساهم هكذا مقرر، وكان يُسمّى "المنهاجية النقدية في دراسة العلوم الاجتماعية"، الذي حضرته أثناء الإعداد لكتابة أطروحة الدكتوراه، في دفعي إلى إعادة التفكير في طريقة تناول موضوعاتي البحثية، كما لا يزال مؤثرا في مقاربتي وفهمي للظواهر السياسية والدينية حتى الآن وذلك بعيدا عن التفسيرات الاختزالية والنمطية التي كنت أقع فيها بسهولة في مرحلة ما قبل الدكتوراه.

 

ثمة فارق آخر مهم يتمثّل في توافر المراجع اللازمة للبحث والدراسة في حقل الدراسات الإسلامية. وهي مفارقة لا تقل غرابة عن سابقتها، حين تجد بعض المصادر الكلاسيكية بالجامعات الغربية غير متوافر بسهولة في المكتبات العربية سواء الجامعية أو غيرها، وذلك إما نتيجة لأسباب تتعلق بالحقبة الكولينيالية وما نهبه الاستعمار من مخطوطات وكتب قديمة من بلاد العرب والمسلمين، وإما نتيجة لعدم وجود طبعات حديثة لهذه المصادر الكلاسيكية.

 

أذكر مثلا أنه في اليوم الأول لي بمكتبة جامعة "دورهام"، التي كنت أدرس بها الدكتوراه ببريطانيا، وقعت عيناي على أمهات الكتب العربية والإسلامية بما في ذلك التفاسير وكتب الحديث والفقه والشعر والأدب، والتي تمت طباعتها قبل أكثر من قرن في مطابع دمشق وحلب والقاهرة والآستانة والهند. وكان من بين ما وجدت، على سبيل المثال، مخطوطات كُتب الإمام الغزالي ومنها مخطوطة "القسطاس المستقيم" التي طُبعت بـ "مطبعة الترقي" بالقاهرة عام ١٩٠٠.

 

أما الأكثر لفتا للانتباه فيتعلق بمسألة اختيار موضوع البحث أو الدراسة، فثمة افتراض مسبق لدى بعض الباحثين والدارسين العرب أن ما يطرحونه من موضوعات لم يسبقهم إليه أحد، في حين أنه بقليل من البحث والدراسة (وربما التواضع) سوف نكتشف أن كثيرا من هذه الموضوعات قد تم تناوله بشكل أو بآخر. لذا فغالبا ما ينطلق الباحث من موضوع واسع وفضفاض، لينتهي بعد ذلك إلى موضوع أكثر دقة وتحديدا.

 

لا تخلو دراسة الإسلاميات في الغرب من مطبات ومزالق عديدة قد يقع فيها بعض الباحثين والدارسين العرب والمسلمين، سواء بقصد أو بدون قصد، ليس أقلها الوقوع في فخ الاستشراق الذاتي 
لا تخلو دراسة الإسلاميات في الغرب من مطبات ومزالق عديدة قد يقع فيها بعض الباحثين والدارسين العرب والمسلمين، سواء بقصد أو بدون قصد، ليس أقلها الوقوع في فخ الاستشراق الذاتي 
 

أذكر أنني التقيت باحثا من سويسرا جاء إلى القاهرة كي يشتغل على رسالته للماجستير عام ٢٠٠٥، وكان ذلك على هامش إحدى ندوات معرض القاهرة للكتاب، وكان قد قدّمني إليه الباحث الراحل حسام تمام، رحمه الله، فلما سألته عن موضوع رسالته، وقد توقعت أن تكون عن موضوع تقليدي، فوجئت بأنه يكتب عن "زبيبة الصلاة" (العلامة في جبهة المصلي من أثر السجود)، وعندما طلبت منه أن يشرح أكثر وجدته يبحث في العلاقة بين الإيمان الطقوسي والسلوك الاجتماعي! وهو أمر لم يخطر لي على بال، وذلك رغم شيوعه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية!

 

ورغم ذلك، فلا تخلو دراسة الإسلاميات في الغرب من مطبات ومزالق عديدة قد يقع فيها بعض الباحثين والدارسين العرب والمسلمين، سواء بقصد أو بدون قصد، ليس أقلها الوقوع في فخ الاستشراق الذاتي وذلك حين يتبنّون المقولات الجاهزة والافتراضات المسبقة عن الإسلام والمسلمين ومجتمعاتهم، ويتلبّسون لباس التفوق الأخلاقي المتعالي على أبناء جلدتهم، أو حين يتبنّى بعضهم خطابا اعتذاريا يقوم على جلد الذات، ليس فقط بسبب تلك الفوارق السابق الإشارة إليها، وإنما أيضا بسبب الشعور الكامن بالهزيمة النفسية والحضارية تجاه الغرب المتقدم! ناهيك عن مأزق التكيف الأنطولوجي والنفسي مع بعض الحقول المعرفية خاصة علم الاجتماع الديني أو سوسيولوجيا الدين، وهذه النقطة الأخيرة بحاجة إلى مقال آخر.

 

وما سبق لا يجب أن يُفهم منه، بأي حال، الانحياز إلى الدراسة في الغرب، أو الانبهار بالجامعات الغربية في مقابل نظيرتها العربية أو الإسلامية، وذلك رغم أن كثيرا من الباحثين العرب والمسلمين ممن تعلموا في الغرب كانت لهم إسهامات مهمة وجادة في دراسة بلدانهم ومجتمعاتهم، وإنما هي فقط محاولة لرصد بعض المفارقات التي يقابلها الباحث العربي حين يذهب إلى دراسة الإسلام في الغرب، وذلك من واقع تجربة ذاتية، يعكسها شعور بالهمّ الثقيل تجاه حالة البحث والتفكير في جامعاتنا وبلداننا. وكم يتمنى المرء أن يجد في جامعاتنا اهتماما حقيقيا بالمناهج البحثية وطرق التفكير النقدية، وأن يحظى طلابنا وباحثونا بنفس القدر من الحرية البحثية والأكاديمية التي قد يحظون بها في الجامعات الغربية، وهو أمر لا يزال بعيد المنال في ظل هيمنة الاستبداد داخل قاعات الدرس وخارجها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.