شعار قسم مدونات

رواية السجينة.. التاريخ المخبأ للمغرب

Blogs- السجينة

وأنت تقرأ رواية السجينة لمليكة أوفقير، تَعود بك الذاكرة إلى السنوات التي تلت استقلال المغرب، تعود بنا الرواية إلى كل تلك الأزمنة الغابرة، لتكشف المستور والمخبأ، وتُبرز معنى أن يناضل المرء من أجل حريته، ومعنى أن يكون المرء إنسانا.

         

من الصعب أن ينال الإنسان حريته إذا لم يقاوم من أجلها، ذلك أن الحرية تظل مطلبا إنسانيا، يبحث عنها البشر باستمرار، ولأنها كذلك كان من الصعب أن يكون المرء حرا تماما، ومن خلال الرواية نستكشف معنى الحرية، والتي سُلبت من البطلة منذ نعومة أظافرها بطريقة غير مباشرة، ذلك أنها وجدت نفسها تساير تعاليم القصر الملكي بعد أن تبناها محمد الخامس، وظلت بذلك خاضعة للرقابة والقيود المفروضة على رجال ونساء القصر، وهنا يتضح أن مليكة أوفقير لمّا اختارت اسم "السجينة" عنوانا لروايتها، فلأنها وجدت نفسها كذلك، ومنذ أن تم تبنيها من طرف محمد الخامس، ظلت سجينة، والاختلاف يكمن في طبيعة السجون التي اعتقلت فيها، وعلى طول الرواية نستطلع أنواع السجون التي وجدت مليكة نفسها فيها.
 
لقد ساهم القصر الملكي في تكوين شخصية مليكة أوفقير، وجعل منها إنسانة قوية وشجاعة وجريئة وطموحة. ولعل ذلك مَكّنها من التغلب على المعاناة التي ستتذوقها في السجون. ولطالما كانت الحرية والتحرر هو شعار مليكة، ولهذا ظلت تحاول التخلص من القيود المفروضة عليها بشتى أنواعها. في ريعان شباب مليكة، في فترة المراهقة تحديدًا، والتي كان من المفترض أن تقضيها في الاستمتاع بالحياة، وقع ما لم يكن في الحسبان، وبسبب الانقلاب العسكري الأول، ثم تلاه محاولة انقلاب ثانية على الملك الحسن الثاني، وباء ذلك بالفشل، فاتجهت بذلك الشكوك صوب الدرع الأيمن للملك، والمعني بالأمر هو الجنرال محمد أوفقير، والذي كان يرفض بشكل سري طبيعة حكم النظام، ولم تكن حياة الجنرال سهلة كما يعتقد البعض، ذلك أنه لم يصل إلى منصبه إلا بعد تجارب ضخمة في الحياة العسكرية، بسبب ذلك ستتغير حياة عائلة أوفقير رأسًا على عقب.
  

تذوّق الهاربون الحرية لأربعة أيام متتالية بعد خمسة عشر سنة من الاعتقال، وأثناء هذا الهرب تمكنوا من القيام بعدة أمور ساهمت بشكل إيجابي في المصير الذي ينتظر العائلة

بعد محاولة الانقلاب الثاني، أُعدم الجنرال أوفقير والد مليكة أوفقير، وهذا الحدث كان بمثابة نقطة تحول بارزة في حياة عائلة أوفقير، ومباشرة بعده بأربعة أشهر من الإعدام، صدرت أوامر مَلكِية في حق عائلة أوفقير، والتي تنص كما يتضح من خلال أحداث الرواية على أنها أوامر تهدف إلى القضاء على العائلة، هذه العائلة المكونة من ثمانية أفراد لم يكن لهم دخل في ما ارتكبه رب الأسرة، فما ذنب عبد اللطيف البالغ من العمر سنتين؟ ولأن مليكة كانت البنت البكر للعائلة كان عليها أن تكون القائدة لعائلتها في محنتها. 
  
تعرضت عائلة أوفقير لعدة أنواع من التعذيب النفسي وأحيانا الجسدي، بعد نقلهم لمسافات طويلة صوب أماكن مختلفة، صوب أماكن تنعدم فيها أبسط شروط الحياة، هناك ذاقت العائلة بكل أفرادها مرارة العيش، والتي لم يكونوا يوما يتصورونها، فبعد أن اعتادوا على عيشة الملوك والرفاهية، ها هي الحياة تدير ظهرها لهم، ليكتشفوا عالما آخر مختلف، عالم لا يوجد فيه معنى الكرامة والحرية والعدالة والإنسانية.
 
هناك في السجون التي ظلوا يُنقلون إليها في كل مرة، حَملتْ مليكة أوفقير لواء توحيد الأسرة، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي الكافي، والذي من شأنه أن يخفف عن إخوانها وأخواتها مرارة السجون، والذي من شأنه كذلك أن يُعوض عنهم ما فاتهم من دروس المدرسة ودروس الحياة التي سبقتهم إليها مليكة، وقد أعطى ذلك أكله، حيث ظلت العائلة منسجمة، ويواجهون الفراغ القاتل داخل السجون بكل ما أوتيت مليكة من إبداع وأحلام وطموحات، كل ذلك ساهم في التخفيف من وطأة السجن على العائلة.
 
أما الأوضاع الصحية لكل أفراد العائلة فكانت في حالة يرثى لها، وتزداد سوءا يوما بعد يوم، وظلوا يقاومون عبث الظروف رغم المعاناة والآلام التي لا تنتهي، وبفضل زعامة أختهم مليكة، كلّ ذلك لم يزد العائلة إلا إصرارًا على المقاومة من أجل الحصول على الحرية، رغم بعض اللحظات التي اقتربت فيه العائلة من الانهيار والاستسلام، لكن شيئا من ذلك لم يكن، حيث ظلت العائلة متماسكة قوية، حتى تسللت إليهم فكرة الهرب من ذلك العذاب، والتي أتت أكلها بكل امتياز.
   

من خلال رواية السجينة، يستكشف القارئ العالم الخفي المتعلق بطبيعة النظام في دول العالم الثالث
من خلال رواية السجينة، يستكشف القارئ العالم الخفي المتعلق بطبيعة النظام في دول العالم الثالث
 

هربت مليكة أوفقير رفقة أختها واثنان من إخوانها، وتركت أمها رفقة بقية الأفراد، في انتظار ما ستؤول إليه الأحداث بعد هذا الهروب الكبير، والذي تم التخطيط له بشكل دقيق. تذوّق الهاربون الحرية لأربعة أيام متتالية بعد خمسة عشر سنة من الاعتقال، وأثناء هذا الهرب تمكنوا من القيام بعدة أمور ساهمت بشكل إيجابي في المصير الذي ينتظر العائلة، ولقد أدى هذا الهروب الكبير إلى استكشاف معنى أن يكون الإنسان فارّا، واكتشفت مليكة دروسا أخرى في الحياة، فبعد أن كانت مليكة اِسمًا على مُسمى، ها هي تتعرض للطرد في الأماكن التي كانت في يوم من الأيام تفعل فيها ما تشاء، يا لسخرية القدر! أما أخوها الصغير، والذي وجد نفسه في السجن، ها هو يكتشف لتوه عالما آخر لم يكن يتصوره البتة. لقد تمكنوا من الحصول على حرية مؤقتة، استغلوها لاعتناق ما تبقى لهم من الحياة، بعد أن اتصلوا بالصحافة الفرنسية، وهذا الفعل هو الذي غيّر من مجرى الأحداث.
 
لقد ساهم الهروب الكبير في أن تجتمع العائلة من جديد في سجن أفضل، وهكذا بدأت الأمور تسير في صالح العائلة، خصوصا بعد أن بلغت قضيتهم الصحافة العالمية، ومن تم أصبحت سمعة المغرب على المحك، وتم اتخاذ تدابير أخرى في حق العائلة، وبعد أن باتت العائلة تفكر في اللجوء السياسي فقط، بدأ ذلك يتأجل لأسباب مجهولة، فتم سلبهم جوازات سفرهم، وإرسالهم إلى شقة فخمة في مراكش، هذه التدابير هدفها البحث عن الهدنة في هذه القضية الإنسانية، وذلك بهدف تنظيف ملف المغرب في الساحة الدولية، فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
   
في سنة 1991، أي قرابة عشرين عاما من السجن، اعتنقت عائلة أوفقير الحرية، وذهبوا إلى فرنسا، وهناك استكملوا ما تبقى من حياتهم، بعد سنوات من التعذيب النفسي والجسدي، والذي لم يكن لهم فيه حول ولا قوة. رواية السجينة ليست سيرة ذاتية لمليكة أوفقير فحسب، بل إنها تأريخ للمغرب إبان سنوات الجمر والرصاص، ذلك التاريخ الذي ظل مسكوتا عنه، ويحكي طبيعة النظام الذي يتخذ إجراءات صارمة في حق كل من حاول أن يهدد استقرار البلاد والحاكم، ومن خلال الرواية يستكشف القارئ العالم الخفي المتعلق بطبيعة النظام في دول العالم الثالث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.