شعار قسم مدونات

سقفُ توقّعاتِنا المُنهار!

blogs خيبة الأمل

ينظر الفتى البائس إلى حبيبته الغنية فيراها جميلة بعيدة المنال، فهي تملك المال والحياة الراقية، عاملان لا يملكهما سعى إليهما… لكنه أدرك في النهاية أن سعيه جعله ينبذ أصدقائه ومن عاونه وقت فقره وبؤسه بينما هي لم تحفل به وتزوجت بغيره… هو جانب من قصة رواية "توقعات عظيمة" Great Expectations للروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، تقدم مثالاً أدبياً عن توقعاتنا في الآخرين وكيف ننظر إليهم… إذ نرى لديهم ما ليس لدينا وأنهم يملكون كل ما نتمناه نحن ونسعى لنيله.  

 

في صغري كنتُ  قارئة نهمة لمقالة أسبوعية لكاتبة أردنية، حتى كنتُ وابنة عمي نقصّها ونجمعها لنعيد قرائتها، كانت الكاتبة بمثابة "أحلام مستغانمي" بالنسبة لنا قبل أن نعرف مستغانمي أصلاً. وبقيت محتفظة بتلك المقالات أعيد قرائتها بين حين وآخر حتى بعد إنهائي الدراسة الجامعية وبداية عملي كصحفية. ثم شاءت الفرصة أن ألتقي بتلك الكاتبة وجهاً لوجه في أكثر من مناسبة، فوجدتها -بسبب توقعاتي المسبقة المبنية على رقّة مقالاتها وعذوبة أسلوبها الكتابي- شخصاً مختلفاً تماماً عما تخيلته من رقة وتواضع، لكنني فيما بعد عرفت أنني بالغت في توقعاتي ورسمت لها صورة تشبه ما كنت أقرؤه لها، فهي بالنهاية إنسانة عادية لها طباعها وأسلوبها المختلف على الطبيعة.

 

في الغرب حالياً بدأت موجة لفضح كثير من المشاهير ظهرت لهم سوابق تحرشات جنسية، لم تنتشر من قبل ولم تُعرف لولا حملات قادتها نساء تعرضن للتحرش وشجّعن غيرهن للخروج عن الصمت
في الغرب حالياً بدأت موجة لفضح كثير من المشاهير ظهرت لهم سوابق تحرشات جنسية، لم تنتشر من قبل ولم تُعرف لولا حملات قادتها نساء تعرضن للتحرش وشجّعن غيرهن للخروج عن الصمت
 

كان ذلك درساً صغيراً لي في بداية حياتي المهنية، وقبل أن أدخل إلى عالم الإعلام المدسوس بالتوقعات الزائفة المغلفة من خلال الصور المضيئة والعناوين الباهرة والفرقعات الإخراجية الفاخرة التي لا تشبه الواقع ولا تلامسه إلا ما قلّ، فتعلمت من يومها أن أتخذ خطوة للوراء وأن أعطي الأشخاص والأمور وقتاً قبل الحكم على خيرها من شرها.

 

وأعيد المشهد ولكن بالعكس، ففي إحدى المناسبات بعد أن عملت في الإذاعة كمقدمة للأخبار والبرامج جائت إحدى المستمعات وطلبت التعرف إليّ والتحدث معي وكانت تعرفني من خلال صوتي الإذاعي ولم ترني من قبل، وحينما رأتني فتحت عينيها على وسعهما مندهشة… وقالت لي بصراحة إنها تخيلتني بصورة مختلفة تماماً وأنني طويلة وكبيرة في السن، فضحكت كثيراً يومها لأنني أبدو تماماً بعكس ما تخيلت تلك المستمعة، وتأكدتْ لديّ يومها فكرةُ التوقعات الكبيرة.

 

فالمشاهير يظهرون دوماً بكامل زينتهم وقوتهم وجمالهم، لدرجة أنننا كمعجبين نصبح غير راغبين برؤيتهم كأناس عاديين ولا نعرف كيف نتخيلهم بدون مكياج مثلاً، ولذلك عندما انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي صرنا نرى من يجمع صور الفنانين والفنانات قبل المكياج وبعده وقبل عمليات التجميل وبعده كمحاولات لقتل الإبهار الذي رسمه لنا الإعلام والشاشة عنهم.

 

سقوف التوقعات الكبيرة أنهارت فوق كثير من الشخصيات، فظهروا بصورتهم الحقيقية التي لم يرغبوا في يوم ما أن تكون، وبدوا مختلفين عن توقعات معجبيهن ومتابعيهم بهم

في الغرب حالياً بدأت موجة لفضح كثير من المشاهير ظهرت لهم سوابق تحرشات جنسية، لم تنتشر من قبل ولم تُعرف لولا حملات قادتها نساء تعرضن للتحرش وشجّعن غيرهن للخروج عن الصمت والحديث عن قصص تعرضهن للتحرش وأحيانا الاغتصاب من قبل مشاهير وفنانين كانت الناس معجبة بأفلامهم وأعمالهم وطريقة تمثيلهم.

 

اليوم وفي عصر مواقع التواصل الاجتماعي، ازدادت التوقعات العظيمة في شخصيات مشهورة أو ناشطة في مجالات متعددة لا تنحصر فقط بالفن والفنانين… جعلتهم يظهرون بصورة كاملة لا غبار ولا شائبة تشوبها، حياتهم ناجحة وجميلة ومبهرة ولا ينشرون سوى صورهم الجميلة ولا يكتبون سوى عن إنجازاتهم وأفكارهم المميزة والجوانب المبدعة في حياتهم، لدرجة أننا نعتقد أحياناً أن لا أخطاء لديهم وأنهم يعملون ليل نهار على أنفسهم وأنهم لا يناموا الليل بالفعل في سبيل ذلك.

 

لكن سقوف التوقعات الكبيرة أنهارت فوق كثير من تلك الشخصيات، فظهروا بصورتهم الحقيقية التي لم يرغبوا في يوم ما أن تكون، وبدوا مختلفين عن توقعات معجبيهن ومتابعيهم بهم… هي بالتأكيد ضريبة من يرغب بالشهرة ويسعى لها.

 

الأهم من ذلك نحن وتوقعاتنا التي ينبغي أن تعلمنا أن نخفض من سقفها قليلاً، لنفهم اختلاف الأشخاص والظروف التي هيئت لهم نجاحاتهم والفرص التي سعوا إليها واجتهدوا فيها، وإضافة لكل هذا طبائعهم الخاصة وأسلوبهم في الحياة ومع الآخرين والذي قد لا يشبه أبداً ما نراه في صورهم الجميلة والمزركشة في توقعاتنا… ونوفر بالتالي على مشاعرنا وصور قدواتنا انهيار سقوف توقعاتها المسبقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.