شعار قسم مدونات

الذين تقدموا في العشق لا في العمر

blogs - الرقص الصوفي صوفية
يولد الإنسان مرة واحدة في الحياة، حين يعشق

تكون حياتك بلا معنى، فارغة، مملة وأعمق فكرة فيها تُشعرك بالضجر، كل شيء يكون فيكَ حياديا، وتشعر أنك ناقص لا شيء يُكملك، لا فكرة ولا حدث ولا رفقة ولا عائلة أو صديق، ورغم انشغالك دوما وامتلاكك لطموحات عالية إلا أنك تشعر وكأنك تعيش بلا هدف، ثم يأتي أحدهم ويضع المعاني على تفاصيل حياتك، يكسر روتينك القاتل ويشد انتباهك وينصب السعادة في طريقك ويضم الفرح إلى قلبك ويعطف أحزانك إلى طريق أخرى لا تؤدي إليك، ويجر وحدتك من شعرها ويلقي بها خارج حياتك، فيصبح كل شيء فيك حي، له معنى ولون وطعم ورائحة.

حتى الحزن يصبح مختلفا. تبدو تفاصيله لذيذة لأنك تعرف بأن هناك من سيمسح غباره عن قلبك بمجرد شروق صُبح وجهه في عتمتك، سيأتي من يستمع باهتمام لأحاديثك البسيطة ويدقق في تفاصيلك السطحية ويكترث لأتفه الأشياء فيك ويجعلها ذات قيمة.

حين يأتي أحدهم، ستجرب كيف تولد من جديد، وأحيانا تجرب كيف تموت في اليوم ألف مرة وأنت على قيد العشق، عند كل غياب تموت، ومع كل فراق تموت، موتا شهيا ليس ككل موت، ثم تعود لتولد من جديد من رحم العشق لا من رحم أمك.

حين تكون طاعنا في العشق، يعانقك أحدهم فتشعر بغصة وكأنك لا تريد أن يتقاسم معك محبته حتى أقرب الناس إليك، وحده حين يضمك تضيق المسافة بينكما ويتسع الكون

كل شيء يبدو حولك جميلا، تنظر إلى الأشياء بنظرة مختلفة، تُقبل على الحياة بطريقة عجيبة، بداخلك طفل شقي يظل يلعب ويضحك لكنه لا يكبر أبدا. تكتشف أن العشق "أم" تجيد تقليم أظافر الخوف فيك كي لا "يخرمش" قلبك، تبدو قاسية على كل من يجعلك تحزن، تراقبك بشغف وتعتقد دوما أنك طفلها الذي لا يكبر مهما كان ناضجا.

حين يولد العاشق فيك، تشعر أن ثمانية وعشرين حرفا في اللغة لا تكفي لوصف كل ما حدث وما لم يحدث بينكما، وأن خمس حواس غير كافية لتشعر كل شيء معه، لسان واحد لا يكفي لقول كل ما تود قوله، ولا لتذوق لذة المعنى في أحاديثه، وجسد واحد لا يكفي للمس قلبه، والعيون لا تشبع من النظر إليه، وتخشى أن يخذلك أنفك ولا يحمل رائحته معك أينما ذهبت، فيما سيكون السمع عاجزا عن الإصغاء لكل شيء يصدر منه، كأن تصغي إلى صمته، رائحته، غضبه، فرحه، ذلك أن هناك أمورا تُدرك لكنها لا تُسمع ولا تُرى.

أنا هنا، ضع يدك على قلبك وسوف تلمسني

أنا بقربك، أغمض عينيك ستراني

حين تتقدم بالعشق، تستيقظ صباحا وتتناول صوته ثم تبدأ يومك بصحبته حتى في غيابه، لا قيمة لتفاصيلك دون أن تخبره بأدق ما فيها، ولا قيمة لمشاويرك دون أن يرافقك، حتى الصورة حين تلتقطها لنفسك، تلتقطها وأنت تفكر بإرسالها له كي يرى كم أصبحتَ جميلا حين اكتشفتَ برفقته شيئا يدعى الفرح. تتمنى لو يشاركك قهوتك كل صباح، لو تعد له وجبات طعامه، لو تسمع معه أغنياتك المفضلة، لو تعتني بثيابه وتختار له عطره وتقرأ معه الكتب وتتشاجرا على فكرة لم تعجبكما في حاشية كتاب مهجور بمكتبة عامة، ثم تتعانق مشاعركما خلسة في بيت شعر، وتُنظم حياتكما قصيدة بوزن وقافية، وكما دوما، لا تخلو أحاديثكما من هموم الوطن والضعفاء والشهداء.

حين تكون طاعنا في العشق، يعانقك أحدهم فتشعر بغصة وكأنك لا تريد أن يتقاسم معك محبته حتى أقرب الناس إليك، وحده حين يضمك تضيق المسافة بينكما ويتسع الكون بداخلك، وحده حين يضحك تصغر عيناه ويكبر الكون حولك، حين تصحو من نومك ينهض كل شيء فيك ويبقى هو نائما في قلبك، تهمس له برفق "صباح الخير"، وتعده بنهار جميل وعمل رائع وانجازات مميزة، هو يختصر حياتك لكنه لا يختزلها، تبدو واسعة لكنها لا تتسع لسواه.

يولد العاشق وكل يوم يتمنى قلبه اللجوء إلى محبوبه دون رجعة، يتسع له المنفى حين يحمله في قلبه، وعندما يتقدم به العشق يرضى بخيمة صغيرة على حدود وطنه
يولد العاشق وكل يوم يتمنى قلبه اللجوء إلى محبوبه دون رجعة، يتسع له المنفى حين يحمله في قلبه، وعندما يتقدم به العشق يرضى بخيمة صغيرة على حدود وطنه
 

إن الذين يواصلون الاحتفال بيوم ميلادهم الذي جاؤوا فيه إلى الحياة لم يولدوا بعد، ذلك أن العمر يبدأ من اللحظة التي ينبض فيها قلبك بالحب، بتلك النعمة التي وهبكَ إيها الله كي تحافظ عليها، وآثم كل من يُزهق هذه الروح التي تسربت إليه أو يؤذي القلب الذي يحمل بداخله هذا المولود الصغير، بشاعة فعله كبشاعة أم تُجهض طفلها بعدما شعرت بنبضه فيها، لن يغفر الله إزهاقها لتلك الروح.

وكما الرحم يُعتبر بيتا آمنا للأرواح الصغيرة. كذلك القلب مخدعا صغيرا للأرواح الكبيرة، لذلك يبدو معظم العشاق أطفالا بتصرفاتهم وغيرتهم وشغفهم وجنونهم، يتقدمون بالعشق لا بالعمر، حين تسألهم عن أعمارهم يبدأون بحسابها من اللحظة التي حملت قلوبهم الحب، ومن يفهمهم جيدا يعرف أنهم يحتاجون لوقت طويل حتى ينضجوا، يخطئون كثيرا ويتصرفون بحماقة، فعاشق دخل سن الأربعين بعمر ثلاث سنوات هو طفل ما زال يتعثر بخطواته.

يولد العاشق وكل يوم يتمنى قلبه اللجوء إلى محبوبه دون رجعة، يتسع له المنفى حين يحمله في قلبه، وعندما يتقدم به العشق يرضى بخيمة صغيرة على حدود وطنه، يكتفي بحراسته من بعيد حين فشل بتخليصه من احتلالٍ أوجعه وواقع جثم على صدره فخنقه، أما إذا أصبح طاعنا في العشق فتغني كلماته له، وشعره يُنظمُ عنه، وقلمه يشق بياض الصمت ويرسم عشقا لا مسافات فيه ولا غياب، فيكتب له: كل عام وأحبك مكتوبة في أول السطر وآخره، في الحاشية وفي العنوان، في العمر وفي أيام الحرمان، كل عام وأنا قتيلك في العشق وعلى دين حبك أعمدُ قلبي ولأوطان جسدك أعلن انتمائي، ولغير هواك يكون العصيان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.