شعار قسم مدونات

الشك اليقيني!

مدونات - محمد شحرور كتب

 شهدت فترة التسعينيات من القرن الماضي نقاشاتٍ فكريةً نقدية في حقل "الإسلاميات" نتيجة دخول أفراد من تخصصات أخرى إلى حقل الدراسات الإسلامية كما هو الحال مع محمد شحرور القادم من الهندسة، ونصر حامد أبو زيد القادم من حقل الآداب وآخرين. شغل الرجلان بأعمالهما حيزًا مهمًّا من تلك الجدالات، فقد قدّما أطروحات لم تخرج على المألوف فقط بل على النظام المفهومي والمنهجي المستقر للدراسات الإسلامية أيضًا. فشحرور تصدى لمهمة القطيعة مع مجمل التراث الإسلامي المتراكم عبر قرون، ولتقديم تصور جديد عن الإسلام نفسه معتقدًا وتشريعًا وثقافةً؛ بادئًا بتقديم ما أسماه "قراءة معاصرة" للقرآن. أما أبو زيد فقد اشتغل على مناهج التأويل الغربية الحديثة واستثمرها في دراسة النص القرآني ومنهج فهمه للتحرر من سلطته كليةً.

 

انخرطتُ وأبناء جيلي في تلك النقاشات وتابعناها مدفوعين بهاجس التجديد، الهاجس الذي كان ممزوجًا بتململ من واقع كليات الشريعة والمحتوى الذي كانت تدرّسه لنا. فلم تكن تلك المقررات ولا طرائق التدريس تُقنعنا أو تلبي حاجاتنا كطلاب، كما أن زملاءنا الذي درسوا معنا لم يكونوا يأبهون لتلك النقاشات الجديدة التي تُخلخل بعض القناعات أو المسلّمات الدينية. وحتى إن أرادوا الانخراط فيها فإن معرفتهم لا تؤهلهم للخوض فيها ونقدها بطرائق علمية؛ لشدة تقليديتهم، ولأن مناهج التدريس لم تكن تنمّي مَلَكة التفكير النقدي والمنهجي.

 

بعد اتهام نصر حامد أبو زيد بالردة وتطليق زوجته بسبب ذلك زار دمشق، فسعيتُ بصحبة أصدقاء آخرين لمقابلته في فندق الشام بدمشق، ودار النقاش معه حول تاريخية النص القرآني، وقد بدا الرجل حريصًا على التمييز بين التاريخي والتاريخانية، وأنه يقول بالمنهج التاريخي ولا يقول بالتاريخانية. بدا لنا الرجلُ حينها يُداور أو يناور، فقد كان يعاني من مأزق نفسي واجتماعي بسبب محنته. وقد خصص أبو زيد كتابًا كاملاً لنقد الشافعي وما سماه "الوسطية التلفيقية" التي أدخل بها الشافعيُّ -بحسب أبو زيد- النصَّ في سياج مغلق وأَسّس لمرجعية نص الحديث إلى جانب نص القرآن.

 

الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد (1943-2010م) (مواقع التواصل)
الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد (1943-2010م) (مواقع التواصل)

 

أما شحرور فقد حضرتُ إحدى محاضراته التي نُظمت في مكتبة الأسد بدمشق منتصف التسعينيات، وقد احتشد له فيها حشدٌ من النساء أثار فضولَهن رأيُه في الحجاب المتخفف جدًّا. سخر شحرور في محاضرته تلك من الشافعي أيضًا؛ لأنه استدل بحديث "لا وصية لوارث" لينسخ به آية "إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ"، والحديث – بحسب شحرور – "آحاد منقطع رواه أهل المغازي"، وأضاف أن الفقهاء "خلطوا" بين مفهومي الحظ والنصيب، وهو ما قادهم إلى الخلط بين آيات الإرث وآيات الوصية؛ لأن النصيب هو حصة الإنسان في الوصية، أما الحظ فهو ما يصيبه من الإرث.

 

وعيتُ حينها خطأ شحرور في النقل والفهم عن الشافعي؛ لأنه أجنبيٌّ عن الدراسات الإسلامية، فالشافعي قال بالنص: "وَجدْنا أهلَ الفُتْيَا ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم بالمَغَازِي مِنْ قُريش وغيرهم: لا يختلفون في أنَّ النبي قال عامَ الفَتْحِ: لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ… ويَأْثُرُونه عَمّنْ حَفظوا عنه مِمَّنْ لَقُوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّة، وكان أقوى في بعض الأمْرِ من نَقْلِ واحدٍ عن واحدٍ، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين"، فالحديث ليس منقطعًا ولا رواه أهل المغازي فقط، بل له أسانيد وشواهد ثابتة، والأهم أنه يستند إلى العمل المتواتر، ولذلك وجدنا أهل الحديث والأصول فيما بعد يجعلون هذا منهجًا في تَلَقيهم للأحاديث حتى قال الحافظ ابن حجر: "ومن جملة صفات القبول أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث؛ فإنه يُقبل حتى يجب العمل به. وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول"، وقال الحافظ السَّخَاوي: "وكذا إذا تَلَقت الأمة الضعيفَ بالقبول يُعمل به على الصحيح، حتى إنه يُنَزّل منزلة المتواتر في أنه يَنسخ المقطوع به". أي أن المسألة هنا تدور على تفاعل الأمة مع النص عبر التاريخ، وأن العمل المستمر أقوى من رواية الواحد للحديث النبوي أو تأويل الواحد للنص القرآني، وأن فهم الأئمة وعملهم عبر التاريخ يؤسس للتقليد الحي. ومن هنا تشكّلت مناهج تأويل الإسلام وفهمه (العلوم الإسلامية) عبر تفاعل ثَري ومتواصل كان نتاجَ تفاعل الجماعة المسلمة مع النص ضمن حركة التاريخ وتطور المعارف، وتولى صياغتها الجماعة العلمية وفق تقاليد راسخة تبلورت منذ نشأة حِلَق العلم مع الصحابة والتابعين وعنها نتجت المدارس الكلامية والفقهية فيما بعد.

 

وكَون شحرور قادمًا من خارج حقل الدراسات الإسلامية وخارجًا في الوقت نفسه على تراث المسلمين الذي تَأَسس عبر قرون، كان كفيلاً بأن يجعله يقدّم فهمه الشخصيّ على أنه "الحق المبين" وأن القرآن لا يحتمل إلا هذا المعنى الواحد الذي يجري على لسان شحرور نفسه لا غير، وهي الفكرة التي ستصبح سمةَ المتطفلين على حقل الدراسات الإسلامية فيما بعد، أو الذين يقضون حياتهم في تخصص معين ثم يرغبون في ممارسة هوايتهم الشخصية في حقل الدراسات الإسلامية فيما تَبَقى من عمرهم.

 

أستاذ الهندسة المدنية في جامعة دمشق محمد شحرور  (مواقع التواصل)
أستاذ الهندسة المدنية في جامعة دمشق محمد شحرور  (مواقع التواصل)

 

وإذا كانت هذه الظاهرة قد بدأت مع أكاديميين من تخصصات أخرى يستثمرون في عملهم بعضَ الأدوات المنهجية الغربية، فإنها قد آلت فيما بعد إلى هواة يكتبون شكوكهم وخواطرهم من دون الالتزام بأي أدوات منهجية لا تراثية ولا غربية، كما حصل – مثلاً – مع سامر إسلامبولي في "تحرير العقل من النقل"، والمهندس عدنان الرفاعي في "الحق الذي لا يريدون"، وصولاً إلى كتاب "صحيح البخاري: نهاية أسطورة" الذي أثار صخبًا في المغرب مؤخرًا. 

السمة العامة التي تَسِم هذه الأعمال من الأكاديميين والهواة على السواء، هي أن هذا الحق الواحد، أو الحق الذي لا يريدون، أو الصحيح الذي تم تحريفه عبر التاريخ، أو الأسطورة التي انتظرت لقرون حتى يكشفها هاوٍ يمارس تأملاته الشخصية بعيدًا عن حقل العلم والأكاديميا متحررًا من أي منهج أو تقليد علمي، تنطلق من عنصر "ذاتي"، وبقدرة قادر تتحول الشكوك الفردية إلى يقين مطلق يجب على الجميع اعتقاده؛ لأنه الحق الذي انبلج!.

 

المحافظة على تدوين مختلف مسائل العلم ليست مسألة معرفية فقط، بل أخلاقية أيضًا؛ لأنها تُحيل إلى المسؤولية التاريخية تجاه العلم

سبق لتوماس باورز أن كتب كتابًا طريفًا عن "ثقافة الالتباس" قارن فيه بين أفكار علماء قدامى ومعاصرين (مثل ابن الجزري الدمشقي وابن عثيمين)، فوجد أن القدامى وقفوا موقفًا منفتحًا تجاه الالتباس الذي اكتنف النصّ، فمع ابن الجزري مثلاً نجد أن القرآن نص مفتوح لا يمكن بلوغ معناه النهائي واللامحدود، بينما مع ابن عثيمين ثمة موقف صارم تجاه الالتباس يعتبره خطراً يهدد الحقيقة الواحدة، أي أنه كان يَضيق بالتأويلات المتعددة بحجة الوضوح الشديد الكامن في النص!

 

هذه الحالة التي أسميتها "الشك اليقيني" على ما بين الشك واليقين من تناقض صارخ، تعبر عن حالة هذا النوع من الكتابات التي تتناسل هذه الأيام، ويتقاطع فيها الموقف السلفيُّ المُحْدَث مع موقف المنتسب إلى التنوير ممن أشرتُ إليهم، حيث يَزعم الجميع أن ثمة وضوحًا شديدًا لا يحتمل الالتباس لا في أذهانهم ولا في حقيقة الأمر، فكلاهما مدفوعٌ بفكرة الحق الواحد حتى لو كان يمارس تأويلاً شخصيًّا لا يُلزِم الآخرين كما فعل شحرور ويفعل الهواة الجدد على شاكلة الباحث عن أسطورة يتوهم أنه حين يُسقطها في ذهنه فإنما يُسقطها في حقيقة الأمر والواقع، وعلى الجميع -بمن فيهم معاهد العلم الغربي والشرقي- أن يُذعنوا لهذه الحقيقة!

 

دوّن الأئمة والعلماء عبر تاريخ العلوم الإسلامية كلَّ الآراء المختلفة ونشأ علمٌ للجدل كما نشأ علمٌ للاختلاف العالي والنازل، وانشعل أبو الحسن الأشعري بحصر مذاهب الإسلاميين في زمنه ومقالاتهم في علم الكلام، ولو تصفحنا كتب التفسير والفقه والكلام والحديث واللغة وغيرها سنجد خلافًا ثريًّا، وقد رفض الإمام مالك بن أنس طلبَ الخليفة العباسي تعميمَ كتابه "الموطأ" قائلاً: "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتَفَرقوا في البلاد، وكلٌّ مصيبٌ". وكذلك فعل الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما حيث يذكران أحاديث مختلفة وروايات مفترقة في المسألة الواحدة ليحيلوا إلى أن النص مفتوحٌ على تأويلات عدة أو أنهم على علم بالخلاف وإن رجحوا معنى معينًا.

 

لنتأمل لو نَهَج الأئمة السابقون نَهْج ثقافة الحق الواحد شديد الوضوح هذه والتي هي نتاج حقبة ما بعد التنوير الأوروبي، لكانوا قد قضوا على ما أسميه "الغموض الإيجابي" وحرموا العقل من موارد ممارسة نشاطه النقدي وإعادة التأويل في كل عصر، ولكنهم رفضوا أن يكونوا أوصياء على الحق الواحد، أو أن يحتفظوا فقط بتدوين ما يرونه صحيحًا، فحتى المحدّثون اعتنوا بالرواية عن الضعفاء مع علمهم بأنهم ضعفاء؛ لأنهم رأوا أن معرفة الصحيح لا تتحقق إلا بمعرفة الضعيف ومقارنته به. والمحافظة على تدوين مختلف مسائل العلم ليست مسألة معرفية فقط، بل أخلاقية أيضًا؛ لأنها تُحيل إلى المسؤولية التاريخية تجاه العلم وتجاه من يأتون بعدهم ممن قد يُتاح لهم فهمٌ جديد، وهو ما وفر أرضية خصبة لإعمال العقل باستمرار في النص، حيث كل فهمٍ ينبني على تطوير أدوات منهجية بعد سلوك طريق العلم الطويل الذي يبني فيه اللاحق على السابق ويضيف إليه لَبِنَة، ثم بعد هذا الجهد والمعاناة يختم عمله بقوله: "والله أعلم"، أي أنه يُقر بمحدودية جهده ونسبية المعرفة ويُبقي الباب مُشرعًا للخطأ المحتَمَل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.