شعار قسم مدونات

الصحافة الشرسة في مقابل الداجنة

BLOGS جرائد

من بين ملايين ومليارات الكلمات التي تُكتب حول الأرض صبيحة كل يوم في صحف العالم بمختلف لغاتها، موجهة إلى جمهور مختلف الأنواع والاهتمامات، تُرى كم نسبة من يريد منهم حقًا الاشتباك مع هموم الجمهور بكلماته؟! أم أن هذه الكلمات أصبحت أداة تغييب أكثر منها أداة وعي. بينما يُقتل ويُسجن العديد من الصحفيين حول العالم بسبب تغطياتهم وقصصهم، يرتع آخرون في انتظار ما يُملي عليهم من أجهزة أمنية تُريد فقط استخدام كلماتهم كواجهة لصب مفاهيم أنظمتهم في وعي الجماهير، وكلٌ راض بدوره.

 

فيما يُقرر صحفي شاب أن ينشر مادته التي تغضب المسؤول الفلاني أو تفضح الانتهاك الفلاني، ويجعل من نفسه عرضة لخطر أو غيره، في الوقت الذي لا يعلم فيه إن كان راتبه آخر الشهر سيكفيه وأسرته أم لا، بينما تجد آخر ينتظر بيان توجيهات مرسل من جهة أو أخرى "وهم كثر" تُحدد له من سنهاجم اليوم ومن سنلمع اليوم، وكيف سنتجاهل هذا الحدث اليوم، وهو ينتظر اتصال من موظف البنك للاطمئنان على أحوال رصيده الذي زاد بفضل شيكات هدايا رجال الأعمال للتخفيف من نبرة هجومه على شركاتهم. هذه صحافة وهذه صحافة "أيضًا"، "هذا صحفي وهذا صحفي" أيضًا، ولكنه مجرد قرار لتكون هذا أو ذاك.

 

لا أحد يستطيع أن يصبغ صفة "الحياد" على مهنة الصحافة بالإطلاق والعموم دون توضيح، وإنما نستطيع أن نطلب صفة "الموضوعية" ونقيسها ونحسبها ونحللها، فالكل لديه أجندته وأفكاره وانحيازاته، لكنه مطالب أن ينقل هذه الأجندة والأفكار والانحيازات إلى الجمهور بمهنية وموضوعية لا تحوله إلى متسلط ولا تورطه في تحريض وتشهير وجرائم.

 

ما يبقى في ذاكرة الجمهور والتاريخ هو ذاك الذي كان شرسًا في توعيتهم وفي الدفاع عن حقهم في المعرفة، في مقابل من أراد تجهيلهم لتبقى الصحافة الشرسة دائمًا في مواجهة الداجنة
ما يبقى في ذاكرة الجمهور والتاريخ هو ذاك الذي كان شرسًا في توعيتهم وفي الدفاع عن حقهم في المعرفة، في مقابل من أراد تجهيلهم لتبقى الصحافة الشرسة دائمًا في مواجهة الداجنة
 

شتان بين أجندة التحرير التي توضع يوميًا في مقرات الصحف والمواقع "أيًا كانت انحيازاتها" وبين تلك التي توضع في مقرات الأجهزة الأمنية وتعد سلفًا لصحفي سيقسم كلمات وقصص زملائه في باقي الأقسام لخدمة هذه الأجندة التي كتبها حضرة الضابط، الفارق واضح ولا يحتاج لتبيان.

 

بين هذه الأمثلة يمكن أن ترى الفارق واضحًا بين الصحافة الشرسة ونظيرتها الداجنة، هذا النوع الأول الذي يشتبك مع ما يعيشه المواطن دقيقة بدقيقة، في مقابل من يريد أن يُملي على المواطن وعيًا يغيبه عن واقعه دقيقة بدقيقة.

هؤلاء المدجنون بصحافتهم الداجنة لا يحبون التعب والنصب والدخول في القصص التي تثير القلاقل، وإنما يعشقون صحافة البيانات الرسمية وقال سيادته وصرح حضرته، فالقصص المستأنسة بغيتهم. هذا وستجدهم في كل موطن يتحدثون عمن يحاولون تقديم صحافة جادة، وينعتونهم بكل نقيصة، ويرون في شراستهم تهور، بل وللسخرية ستجدهم يعطون دورسًا في المهنية بلا أدنى خجل، فهذه الفئة تحاول تدجين الصحافة بكل ما أوتوا من قوة.

 

ولكن بالتأكيد ما يبقى في ذاكرة الجمهور والتاريخ هو ذاك الذي كان شرسًا في توعيتهم وفي الدفاع عن حقهم في المعرفة، في مقابل من أراد تجهيلهم لتبقى الصحافة الشرسة دائمًا في مواجهة الداجنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.