شعار قسم مدونات

قوات الجمبري

Blogs- السيسي
في إحدى ليالي عام 1948، وقف ضابط جيش تم إلحاقه مؤخرا بالحرس الملكي أمام سرادق كبير أُقيم أمام قصر عابدين لاستطلاع رؤية هلال شهر رمضان حيث كان يقف منتظرا وصول الملك إلى السرادق، وبعد دقائق وصلت السيارة الملكية تحمل الملك جالسا في الخلف بجوار رئيس الوزراء وفي المقدمة بجوار السائق يجلس شماشرجي الملك، وعندما وقفت السيارة أمام السرادق همّ الشماشرجي بالنزول مسرعا لفتح الباب للملك إلا أن مقبض الباب تعطل فجأة ولم يستطع النزول وظل الملك منتظرا أن يُفتح له الباب، فصاح مدير بوليس القصور الملكية في الضابط قائلا: "افتح الباب"، فرد عليه الضابط بنفس القوة: "افتح انت"، فحسم الملك الموقف وفتح الباب لنفسه ونزل.

 

في صباح اليوم الثاني تم استدعاء الضابط "الغريب محمد خليل الحُسيني" لمقابلة قائد عموم الحرس الملكي اللواء حسين فريد، والذي استقبله بوجه عابس قائلا له: "انت ازاي يا أفندي رفضت إطاعة أمر اللواء محلي أحمد كامل مدير بوليس القصور أمس بفتح باب السيارة لجلالة الملك؟"، فأجابه: "يا أفندم أنا لم أرفض إطاعة الأوامر في أي يوم من الأيام، ولكني ضابط مُكلّف بحراسة الملك ولست شماشرجي"، فرد عليه متعجبا: "يعني إيه؟"، فأجابه: "يا باشا أنا مهمتي الحراسة مش فتح الأبواب"، وهو ما لم يجد اللواء ردا عليه فصرفه دون أي عقاب أو توبيخ.

    

تذكرت تلك الواقعة التي أوردها الضابط الغريب الحُسيني في مذكراته "سنوات في البلاط الملكي" وأنا أشاهد أحد الضباط واقفا أمام ثلاجة مؤديا التحية لرئيس الجمهورية وكبار قادة القوات المسلحة وهو يصيح مُعرّفا نفسه قائلا: "رائد مقاتل أحمد سامي قائد خط الجمبري يا أفندم"، وذلك أثناء افتتاح مزرعة بركة غليون للأسماك بمحافظة كفر الشيخ إحدى مشاريع الجيش الجديدة، لأسأل نفسي متعجبا كيف وصل بنا الحال إلى هذه الدرجة؟ وكيف أصبحت مؤسستنا العريقة التي كنا نفتخر باسمها وببطولات أبنائها ونحلم بالانضمام إليها مادة خاما للتندر والسخرية، بعد أن حوّلوها إلى إمبراطورية اقتصادية ضخمة تُنتج كل شيء إلا السلاح!

        

ألم يكفِ كل ما صار في هذا البلد من فساد وكساد وفقر وإرهاب؟ عودوا إلى ثكناتكم وخنادقكم واتركوا الجمبري والطحينة لأهله

ويتسع نطاقها بين مصانع الأسمنت والحديد وحتى بيع الخضروات والفواكه مرورا بصالات الأفراح ومعالف العجول ومزارع الأسماك، في الوقت الذي تُحيط بنا الأخطار من كل جانب، شرقا من عصابات إرهابية استطاعت النَيْل من عشرات بل مئات من الجنود والضباط، وغربا حيث سيل جارف من الإرهابيين والسلاح المهرّب، وجنوبا حيث أصبح النيل شريان حياة هذا البلد في بؤرة الخطر وأصبح الشعب مُهددا بالعطش والفقر المائي.

     

وبينما أنت تُطالع أخبار إسناد عملية إنشاء 625 ملعبا لكرة القدم لوزارة الإنتاج الحربي وجهاز المخابرات العامة، وتدشين القوات المسلحة لمزارع السمك ومصانع لبن الأطفال، وإعلان "وزارة الإنتاج الحربي" طرح ثلاجات ومجمّدات (ديب فريزر) في الأسواق، متسائلا ما الحربي في هذه المنتجات لتنتجه وزارة الإنتاج الحربي، تجد وكالات الأنباء تتناقل الأخبار عن تطوير إسرائيل لدبابات آلية عبارة عن روبوتات يتم التحكم فيها عن بُعد لاستخدامها في الحروب والمهام القتالية للحفاظ على أرواحهم، وبينما كانت المواقع تُعلن عن إنشاء قنوات فضائية بمئات الملايين لحساب أجهزة المخابرات المصرية تجد جهاز الموساد يعلن عن إنشاء صندوق استثماري في شركات التكنولوجيا عالية التطور التي تعمل في تحسين أنشطته التجسسية تحت اسم صندوق "ليبرتاد" لدعمها، مؤكدين على أنه لن يكون شريكا مباشرا وإنما مستثمر يحق له استخدام الخدمات التي تُنتجها تلك الشركات مع احتفاظ أصحابها ومديريها بالإدارة والملكية الفكرية.

          

وبينما يعمل عدوّنا التاريخي على تطوير قدراته العسكرية وأنظمة التجسس علينا انشغلنا نحن بالتجارة والمشاريع المربحة وتسخير الضباط والجنود في أعمال ووظائف لم تُخلق لهم، ولم تُفتح الكليات والمعاهد العسكرية من أجلها، ولم يدفع هؤلاء الجنود شهورا وأعواما من أعمارهم في تجنيد إجباري في سبيلها، ولا أعرف كيف يكون شعور مثل هذا الضابط ولا شعور أهله وهو يصيح مُعرّفا نفسه بأنه قائد خط الجمبري أو قائد خط السمك؟ بدلا من أن يكون واقفا على الحدود يحمي هذا الوطن ويدافع عنه مؤديا دوره الطبيعي المشرّف داخل مؤسسة تُعرف بأنها مؤسسة للدفاع وليست للتجارة.

  

لماذا لا يترك الجيش المشاريع لأهلها ويتوقف عن مزاحمة واحتكار الاقتصاد حتى تنمو بيئة الاستثمار والإنتاج لتمويل الميزانية، وتُصبح كفيلة بالإنفاق على الجيش كأي دولة في العالم يأخذ جيشها نسبة من ميزانيتها
لماذا لا يترك الجيش المشاريع لأهلها ويتوقف عن مزاحمة واحتكار الاقتصاد حتى تنمو بيئة الاستثمار والإنتاج لتمويل الميزانية، وتُصبح كفيلة بالإنفاق على الجيش كأي دولة في العالم يأخذ جيشها نسبة من ميزانيتها
             

الغريب أننا عندما نتحدث عن تلك البديهيات التي تعارف عليها البشر منذ قرون عن دور الجندي والضابط تجد سيلا من الاتهامات بالخيانة والعمالة وحكايات مفبركة عن جيوش البيتزا والهامبرجر، فيصبح الذين يُنادون بإنقاذ الجيش من مستنقعات السياسة والتجارة والمصالح والعودة إلى دورهم الحقيقي كمقاتلين يُتهمون بالخيانة، والذين يُصفّقون ويُهلّلون لهذا العبث هم أصحاب الوطنية وحاملو لوائها، وتسمع عجب العجاب من القيادات أنفسهم حول توسّع مشاريعهم الاقتصادية، مُتناسين دروس الهزيمة الساحقة التي لحقت بنا عام 67 من جرّاء انغماس الجيش في أدوار بعيدة عن مهمته، بالرغم من أنه ليس كلام النشطاء ولا العملاء والممولين كما يدّعون وإنما كلام قادتهم ورموز مؤسستهم.

     

ومن التدليس المتداول أيضا أن تلك المشاريع وهذه التجارة الضخمة هي ضرورة للإنفاق على الجيش وتعويض ما تعجز عنه ميزانية الدولة، فلماذا إذن لا يترك الجيش المشاريع لأهلها ويتوقف عن مزاحمة واحتكار الاقتصاد حتى تنمو بيئة الاستثمار والإنتاج لتمويل الميزانية، وتُصبح كفيلة بالإنفاق على الجيش كأي دولة في العالم يأخذ جيشها نسبة من ميزانيتها، أو أن تُصبح هذه المشاريع تحت إدارة الدولة ووزراتها المدنية بدلا من بيع شركاتها بأبخس الأثمان بصفقات فاسدة، بدلا من هذا الوضع الشاذ الذي أصبحت فيه المؤسسة العسكرية إمبراطورية اقتصادية ضخمة، بل وخارج أي حسابات للدولة، فلا يُعرف حجمها ولا أين تذهب أرباحها مما يفتح بابا واسعا للفساد، وهذا ليس سوء نية تجاه أحد وإنما لا تُدار الدول بحسن النيّات وإنما بالقواعد المتعارف عليها.

      

إن أي مؤسسة مملوكة للدولة يجب أن تتم مراقبة أموالها وتخضع لجهاتها الرقابية ويُعلن عن أرباحها وكيفية إنفاق تلك الأرباح بكل شفافية، أما أن يكون كل ما هو عسكري معروف ومنشور على المواقع العالمية بينما لا يعرف أحد في الكون حجم تجارتها فهو شيء يدعو ليس للريبة وحسب وإنما للفزع من هذا الوضع. ألم يكفِ كل ما صار في هذا البلد من فساد وكساد وفقر وإرهاب؟ عودوا إلى ثكناتكم وخنادقكم واتركوا الجمبري والطحينة لأهله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.