شعار قسم مدونات

هل السنّة وحي؟

blogs سماء

سنقدّم في هذه التدوينة إجابة عن السؤال التالي: هل السنّة النبوية وحيٌ من الله أم إنّ الوحيَ مقتصر على القرآن الكريم؟ فإذا كانت الإجابة أنّ السنّة وحيٌ فهي حجّة في دين الله؛ لأنّه لا يجوز أن يُنسب شيءٌ إلى الدين إلا أن يكون مصدره الوحي، وإذا لم تكن السنّة وحيًا لم تكن حجّة في دين الله.

 

هل الرسول مبلّغ أم مشرّع؟

وقبل أن نجيب عن السؤال الأساسي في هذه التدوينة أودّ أن أتطرّق إلى عبارة غير علمية ترد في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، وهي قول بعضهم: إنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم مبلّغ وليس مشرّعا، يريدون بذلك أن ينفوا عن السنّة النبوية أي حجّية شرعية، باعتبار أنّ مهمّة الرسول هي مجرّد البلاغ عن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}. ويحلو لبعضهم أن يضيف إلى ذلك قوله عزّ وجلّ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ}، ليؤكّد بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم كان مجرّد متّبع لما في الوحي.

لا تناقض بين أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم متّبعًا لما جاء في الوحي، وأن تكون سنّته عليه الصلاة والسلام وحيًا تلقّاه من الله عزّ وجلّ وعلّمه لأمّته

والحقّ أنه لا تناقض بين أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبلّغًا عن ربّه، وأن تكون السنّة وحيًا من الله عزّ وجلّ، كما أنّ كتاب الله وحيٌ من الله عزّ وجلّ، فهو في تلاوته للكتاب وبيانه وتعليمه مبلّغ عن ربّه، وهو في سنّته القولية والعملية مبلّغٌ عن ربّه، ولا يُخبر أو يشرّع من عند نفسه.

 

وكذلك لا تناقض بين أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم متّبعًا لما جاء في الوحي، وأن تكون سنّته عليه الصلاة والسلام وحيًا تلقّاه من الله عزّ وجلّ وعلّمه لأمّته، فليس شيءٌ من هذه الآيات وأمثالها يدلّ على إبطال حجّية السنّة النبوية وصفة الوحي عنها، ولهذا نجد أنّ الآية التي أمرتنا بأن نطيع الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى جانب طاعة الله عزّ وجلّ، وأخبرتنا بأنّ الهداية متعلّقة بطاعته عليه الصلاة والسلام تأكيدا لأهميّتها؛ هي نفسها أخبرتنا بأنّه ما على الرسول إلا البلاغ المبين، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}.

 

القرآن يدلّنا على أنّ السنّة وحي

لعلّه من المهم أولا أن نضع أمام القارئ بعض الآيات التي تدلّ دلالة قاطعة على أنّ هناك وحيًا يوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى جانب الوحي بالقرآن: قال تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، ودلالتها واضحة لمن يفقه شيئًا من العربية. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وهذه أيضا دلالتها واضحة؛ إذ لو كان الوحي مقصورا على كتاب الله لاكتفى بردّ النزاع إلى الله.

 

وقال عزّ وجلّ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فجعل مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام – وهو وحيٌ – عصيانًا يُحاسب عليه الإنسان. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فالله يدعونا على لسان رسوله بكتاب الله، ولكنه أضاف الرسول لأنّه يدعونا لما يحيينا من الوحي الذي في سنّته.

 

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}، فجعل الله سبحانه ما يقضيه الرسولُ صلى الله عليه وسلّم واجبَ الاتباع إلى جانب ما يقضيه الله في كتابه، وجعل عصيانَ الرسول ضلالا مبينًا. وهذه الآيات كافية لمن كان له عقل. فإذا قال قائل: أين أنت من قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}، قلنا له: أين أنت من هذه الآية؟ فالآيات التي ذكرناها هي من تبيان الكتاب وفيها؛ وجوب طاعة الرسول والاستجابة له، وأنّ الهداية متعلّقة بطاعته، وأنْ تردّ ما تختلف فيه إلى الله والرسول، وغيرها آيات كثيرة بيّنتْ لك مقام الرسول الذي تُنكره!

 

حاول بعض منكري حجّية السنة وكونها وحيًا أن يقولوا إنّ ما نعرفه من كيفيات الصلاة هو سنّة عملية منقولة بالتواتر وداوم عليها الناس بالتتابع منذ عصر الرسول، ومن ثم فلسنا بحاجة لأحاديث لمعرفتها
حاول بعض منكري حجّية السنة وكونها وحيًا أن يقولوا إنّ ما نعرفه من كيفيات الصلاة هو سنّة عملية منقولة بالتواتر وداوم عليها الناس بالتتابع منذ عصر الرسول، ومن ثم فلسنا بحاجة لأحاديث لمعرفتها
 
أدلّة أخرى من القرآن

إلى جانب ذلك، دلّ القرآن بطريقة أخرى على أنّ السنّة وحيٌ من عند الله؛ فقد أمر الله عزّ وجلّ بواجبات أساسية في الدين كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وغيرها، ولكنه لم يفصّل كيفية أدائها، ولا ينازع مسلمٌ اليوم على أنّ الصلوات المفروضة خمس صلوات، وأن ركعاتها هي ما نعرفه اليوم، وأن كيفيّاتها كالبدء بالتكبير وقراءة الفاتحة ثم الركوع مرة ثم السجود مرتين، إلى جانب التحيات والتشهّد والصلاة الإبراهيمية والتسليم وأركان الصلاة وشروطها ونواقضها..

 

لا خلاف على أنّ هذه جميعًا من الدين، بل حتى من ينكرون حجّية السنّة يمارس بعضهم هذه الأفعال ويدين الله بها ويعتبرها من عند الله، ومع ذلك فهي غير مفصّلة في كتاب الله، وقد بيّنا في تدوينة "القرآن وحده لا يكفي" هذا الأمر لبيان حجّية السنّة، ولكنّا نذكره هنا لبيان أنّ السنّة وحيٌ من عند الله، وأنّ منكر ذلك عليه أن يرفض إقامة الصلاة بالطريقة التي يقيمها المسلمون اليوم ويتفقون عليها بجميع مذاهبهم؛ لأنّه يُنكر أن يكون قد أُوحيَ بشيء من الدين إلى الرسول مما ليس في كتاب الله!

 

وقد حاول بعض منكري حجّية السنة وكونها وحيًا أن يشغّبوا على هذه الحقيقة ببعض الحجج الواهية، فقالوا (كما يقول محمد شحرور وعدنان إبراهيم وعدنان الرفاعي) إنّ ما نعرفه من كيفيات الصلاة هو سنّة عملية منقولة بالتواتر وداوم عليها الناس بالتتابع منذ عصر الرسول، ومن ثم فلسنا بحاجة إلى الأحاديث لمعرفتها. وفضلا عن خطأ هذا القول كما سنبيّن بإيجاز، فإنّه ليس دليلا في محلّ النزاع؛ فالنزاع هو حول "هل السنّة وحي أم لا"، وليس حول "هل هي سنّة عملية منقولة بالتواتر أم تشمل أيضا السنة القولية والمنقولة في كتب الحديث".

 

أي حتى لو سلّمنا جدلا أنّ كيفيات الصلاة هي سنّة عملية فقط، فهذا لا ينفي كونها أمرًا من الدين جاء عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلّم وليس مفصّلا في كتاب الله، ولا يوجد شيءٌ من الدين إلا أن يكون وحيًا بالاتفاق. ومع ذلك، فهذا قول ضعيف، لأنه لا يمكن الاعتماد على التقليد المجتمعي دون دليل وضابط، فالناس قد ينحرفون تدريجيا عن الحفاظ على الأداء الصحيح للصلاة، مما يستدعي دائما الرجوع إلى السنة المحفوظة لضبط أي انزياح عنها، وهو الدور الذي قام به العلماء جيلا بعد جيل، فقد ظلّ تعليم أحكام الصلاة بناء على السنن المنقولة في كتب الفقه والحديث أمرا متوارثا بين المسلمين.

 

 الدكتور عدنان إبراهيم (مواقع التواصل)
 الدكتور عدنان إبراهيم (مواقع التواصل)


هل توجد تفاصيل الصلاة في القرآن؟

ولأنّ هذا الدليل قاطعٌ حاسمٌ على أن السنّة وحيٌ، فقد زعم عدنان إبراهيم أنّ عدد الصلوات وكيفيّتها وأحكامها موجودة في كتاب الله، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم استنبطها منه، ولكنّه لم يبيّن كيفية ذلك، وقال إننا لا نعلم كيفية ذلك! وهذا لأنّه يعلم أنّه لو أثبت أنّ هذه الأحكام قد جاءت من الرسول وليست في كتاب الله فهذا يُلزمه بالقول بأنّ السنّة وحيٌ من عند الله، ولهذا التجأ إلى هذا القول المتهافت الذي أوقعه في تناقض عجيب!

 

ففي سياق تأويله لقوله تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، ورغم الدلالة الواضحة في الآية على ضرورة التمسّك بسنّة الرسول باعتباره مبيِّنا لما أجمله القرآن، قال عدنان إبراهيم في خطبة "محمد صلى الله عليه وسلم مشرّع أم متّبع" إنّ بيان الرسول هو مجرّد تلاوته؛ لينفي صفة التشريع عن السنّة، زاعمًا أنّ القرآن ليس بحاجة إلى بيان لأنّه بيّنٌ بدليل الآيات التي تذكر أنّه "كتاب مُبين" وأنّه "آيات بيّنات" وأمثالها في القرآن، واستدلّ أيضًا بقوله تعالى في سورة القيامة: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، زاعمًا أنّها تدلّ على أنّ الله هو المتكفّل ببيانه.

ونحن نقول للدكتور عدنان: إذا كان القرآن كما تقول بيّنا وليس بحاجة إلى بيان فكيف يمكن أن يحتوي على كيفيات الصلاة وعدد ركعاتها ومع ذلك لا يمكننا أن نعرف ذلك لوحدنا من "الآيات البيّنات" بل نحتاج إلى الرسول الذي يستنبط ذلك من القرآن كما تقول؟! بهذا يظهر بطلان قول الدكتور عدنان بأنّ الرسول استنبط كيفيات الصلاة من القرآن ولم يوحَ إليه بها في السنّة؛ لأنّها لو كانت في القرآن فستكون – بحسب كلامه – بيّنة واضحة، وإذا كانت غامضة يختصّ الرسول بمعرفتها وإخبارنا بها دون أن يبيّن مواضعها في القرآن؛ فهذا يهدم ما ذكره عدنان من أنّ القرآن بيّن وليس بحاجة إلى بيان الرسول!

 

التزكية وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة؛ هي أمور زائدة على مجرّد التلاوة، مما يؤكّد على أنّ بيان الرسول للقرآن هو بسنّته صلى الله عليه وسلّم القولية والعملية
التزكية وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة؛ هي أمور زائدة على مجرّد التلاوة، مما يؤكّد على أنّ بيان الرسول للقرآن هو بسنّته صلى الله عليه وسلّم القولية والعملية
 

وقد نزل القرآن {بلسانٍ عربيٍّ مُبين} كما قال تعالى، فكيف يحجب الله عز وجل عن أمّته معرفة تفاصيل فريضة الصلاة – وهي ركن أساسي في الدين – من كتابه لو كانت هذه التفاصيل موجودة فيه كما يزعم الدكتور عدنان؟! ولكن يبدو أنّ هذه هي الحيلة الواهية الوحيدة التي يمكن للدكتور عدنان التعلّق بها، لأنّ البديل هو الإقرار بأنّ تفاصيل أحكام الصلاة كعدد الصلوات وعدد الركعات في كل صلاة وغيرها ليس موجودًا في القرآن ومصدرُه السنّة النبوية (وهو كذلك حقّا)، وإذا كان من السنّة النبوية فلا شكّ أنّها وحيٌ من الله عزّ وجلّ؛ إذ لا يمكن أن تكون أحكامُ الدين إلا من طريق الوحي!

 

أما ما ذكره من أدلة على أنّ البيان في قوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} هو "بتلاوته" فهي أدلة متهافتة؛ فلو قرأنا آيتين سابقتين من آيات سورة القيامة التي يستدلّ بها لوجدناها تقيم الحجّة عليه، قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، فسياق الآيات يدلّ على أنّ بيان القرآن يكون عن طريق النبيّ صلى الله عليه وسلّم، كما أنّ الآيات السابقة تنسب "جمعه" و"قرآنه" لله عزّ وجلّ.

 

ومن المعروف أن حفظ القرآن وقراءته هي أمور يقوم بها الرسول صلى الله عليه وسلّم، ولا تعارض بين ذلك وبين ردّها إلى الله عزّ وجلّ؛ لأنّه سبحانه تكفّل بحفظه في صدره وبجريانه بالقراءة على لسانه، وكذلك الأمر تكفّل ببيانه على لسان الرسول، وواضحٌ من سياق الآيات أن البيان زائد عن مجرّد التلاوة، فقد سبق الحديث في الآيات عن الحفظ والقراءة، والبيان شيءٌ زائد عليها، إذ لا يُتصوّر تطابق المعنى بعد "ثُمّ"، وقد جاء عن ابن عبّاس بأنّ "بيانه" يعني "حلاله وحرامه".

 

والملاحَظ هنا أنّ الدكتور عدنان يفتقد للمنهجية الواحدة المتّسقة في الاستدلال؛ فهو في البداية يفسّر البيان – بناء على كل آيات القرآن كما يزعم – على أنّه "التلاوة"، ثم يستدل بآية سورة القيامة {ثمّ إنّ علينا بيانه} ليقول إنّ الله قد تكفّل ببيانه، مما يدلّ على اضطراب منهجي عنده؛ فإذا كان قد فسّر البيان بأنّه تلاوة الكتاب وليس شرحه وتفسير مجمله، فلِمَ يحتجّ بالآية التي تبيّن بأنّ الله قد تكفّل بالبيان؟ فلا يفعل هذا إلا من يعتقد أنّ البيان يعني تفصيله وتفسيره فيحتاج أن ينسب ذلك إلى الله كي ينفي الوحي عن السنّة! وهذا يؤكّد بأنّ الدكتور عدنان متخبّط في منهجيّته ويبحث عن أي شبهة يتعلّق بها، لا أنّ الأدلة هي التي قادته إلى فهمه هذا، فأدلّته مضطربة متناقضة، تارة تكون إشكاليّته معنى البيان، وتارة تكون إلى من يُنسب البيان!

 

وهناك دليل آخر من القرآن على أنّ مهمّة الرسول ليست مجرّد تلاوة الكتاب وتبليغه، بل إلى جانب ذلك: تزكية الناس وتعليمهم الكتاب، وتعليمهم الحكمة، وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، وهو قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. فالتزكية وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة وتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون؛ هي أمور زائدة على مجرّد التلاوة، مما يؤكّد على أنّ بيان الرسول للقرآن هو بسنّته صلى الله عليه وسلّم القولية والعملية، فهي كلّها تزكيةٌ وتعليمٌ للكتاب وتعليمٌ للحكمة وتعليم الناس ما لم يكونوا يعلموه. ولا يصف الله عزّ وجلّ رسوله بذلك حتى نقول إنّ مهمّته هي مجرّد تلاوة القرآن، بل كي نتّبع تعاليمه وما يُعلّمنا إيّاه إلى جانب تلاوته للقرآن كما تدلّ الآية بوضوح.

 

أمْرُ السنّة لا يقتصر على بيان كيفية الصلاة، بل ثمة أحكام أخرى كثيرة من الدين لا نجد تفاصيلها في كتاب الله وإنّما في السنّة، وهي من الدين بالاتفاق؛ كأحكام الزكاة والصيام والحج والجهاد وغيرها
أمْرُ السنّة لا يقتصر على بيان كيفية الصلاة، بل ثمة أحكام أخرى كثيرة من الدين لا نجد تفاصيلها في كتاب الله وإنّما في السنّة، وهي من الدين بالاتفاق؛ كأحكام الزكاة والصيام والحج والجهاد وغيرها
 
تخرّصات معاصرة

أمّا إشادة عدنان إبراهيم بمعرفة بعض المعاصرين لعدد الركعات من كتاب الله فهو محضُ تخرّصات مثيرة للسخرية (لعلّه يقصد محاولات عدنان الرفاعي)، فهي محاولات فاشلة للتخلّص من دور السنّة وفيها تكلّفٌ مثير للضحك للحسابات العددية المعقّدة من أجل معرفة الصلوات وأوقاتها وعدد ركعاتها من القرآن، وكأنّ دين الله عزّ وجلّ بهذا التعقيد حتى تعجز الأمة كلها عن معرفة الصلوات وعدد ركعاتها من القرآن، إلى أن يأتي عدنان الرفاعي ليخبرنا في القرن الخامس عشر الهجري كيف نعرف الصلاة من القرآن بتكلّف واضح! ومما يهدم هذا التكلّف أنّ المسلمين كانوا يصلّون هذه الصلوات الخمس قبل الهجرة وقبل اكتمال نزول القرآن، وصاحب هذا التكلّف يعتمد على حسابات عددية لكلمات في القرآن كلّه مكيّه ومدنيّه!

 

وفضلا عن ذلك، فإنّ أحكام الصلاة ليست مجرد معرفة الصلوات وعدد ركعاتها، بل هي أوسع من ذلك ويدخل فيها ما يُقال في الصلاة كقراءة القرآن والتحيات والتشهد والصلاة الإبراهيمية، ويدخل فيها بيان أركان الصلاة وشروطها، ويدخل فيها نواقض الصلاة وغير ذلك.

 

فكيف سنعرف هذا كله بتلك الحسابات العددية المتكلّفة المعقّدة؟ بل وفضلا عن ذلك فأمْرُ السنّة لا يقتصر على بيان كيفية الصلاة، بل ثمة أحكام أخرى كثيرة من الدين لا نجد تفاصيلها في كتاب الله وإنّما في السنّة، وهي من الدين بالاتفاق؛ كأحكام الزكاة والصيام والحج والجهاد والربا والغرر والنجش والديّة وعدّة الطلاق وغيرها، ومع ذلك فلا نجد تفاصيلها في كتاب الله حتى لو تكلّفنا تكلّفا كبيرا، مع اتفاق الأمة على أنّ هذه الأحكام دينٌ من عند الله، أي على كونها وحيًا. وهذا القدْر وحده كافٍ لبيان أنّ الوحيَ لا يقتصر على القرآن، بل قد أوحى اللهُ عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلّم في السنّة الكثير من تفاصيل الدين وأحكامه، مع التأكيد على أنّه ليس كلّ ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أقوال وأفعال هو بوحيٍ من الله، وليقرأ من أراد تفصيل ذلك تدوينة "فلسفة السنّة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.