شعار قسم مدونات

قضية طارق رمضان وشروط الفلسفة الأخلاقية

blogs طارق رمضان

أثارت قضية المفكر السويسري من أصل مصري د. طارق رمضان المقيم في فرنسا، والذي تعرّض لدعوى تتهمه بالتحرش الجنسي، الإرث الضخم الذي واجهه الفكر الإسلامي الجديد، من قِبل تكتلات ضخمة من إعلاميين وسياسيين ومثقفين فرنسيين ومؤسسات عديدة وقفت بشراسة ضد حضور رمضان لمواسم الجدل الفلسفي الحديث في فرنسا، والذي اتخذ قاعدة الهجوم على الإسلام كدين رسالي وشريك حضاري هدفا استراتيجيا له.

 

ونقصد بهذا الهجوم الشرس الذي سبق قضية المفكر الإسلامي أنه لم يكن مقتصرا مطلقا على صور التطرف والغلو التي تورط بها شباب من المسلمين في أعمال إرهابية في الغرب، أو جماعات مذهبية تعتنق بالفعل فكرا متطرفا غاليا استُخدم ضد المدنيين المسلمين والغربيين، وقد توسع في ظل الحروب الأميركية الشرسة الأخيرة على الشرق الإسلامي، وأنظمة الاستبداد الحليف التاريخي للغرب.

 

وليس لكاتب المقال أي معرفة مسبقة ولا لقاء بالدكتور رمضان، ولم يكن من مراجع البحث لديه، رغم تميّز فكرته ضمن سياق التكامل المعرفي الذي اختطه، ولا تجمعني به أي مؤسسة أو مشروع مشترك، غير أن طرح قضيته كمدخل هو في الحقيقة مسار مهم نحتاج فيه إلى الوقوف على القضية الأشمل.

 

قضية د. طارق رمضان معروضة اليوم أمام القضاء، لكن كان يكفي لكل مَن ينظر من خارج تأثيرات المسرح الفرنسي الصاخب مع رمضان أن يتوقف للوهلة الأولى مع هذه التهم
قضية د. طارق رمضان معروضة اليوم أمام القضاء، لكن كان يكفي لكل مَن ينظر من خارج تأثيرات المسرح الفرنسي الصاخب مع رمضان أن يتوقف للوهلة الأولى مع هذه التهم
 

لكون رمضان في الأصل كان -ولا يزال- أحد أبرز محطات الهجوم الشرس على الفكرة الإسلامية الجديدة في أوروبا، والتي استخدمها هذا التحالف في فرنسا وخارجها كمنصة استهداف مستمرة قبل سنوات من خروج قضية التحرش التي اتُهم بها مؤخرا.

 

وهو ما سمعته مباشرة من زملاء باحثين فرنسيين أكدوا هذه الحقيقة، وأن جزءا رئيسا من نزعة المواجهة مع رمضان تقوم على غيرة شرسة غير أخلاقية تجاه ما يقدمه من وعاء فلسلفي يخاطب به العقل الغربي، وهو خطاب مختلف عن السائد العام في منصات الحوار الفكري في رحلة الغرب مع الإسلام.

 

وقضية د. طارق رمضان معروضة اليوم أمام القضاء، لكن كان يكفي لكل مَن ينظر من خارج تأثيرات المسرح الفرنسي الصاخب مع رمضان أن يتوقف للوهلة الأولى مع هذه التهم التي تبناها التحالف الثقافي القوي في مؤسسات فرنسا وإعلام الاستبداد العربي، واعتبر فيها رمضان مجرما مدانا بصورة نهائية، وكأنما أخذ الرجل حكما نهائيا غير قابل للاستئناف، وأن الملائكة هي التي حاكمته وقُضي الأمر قبل ان تُستفتى العدالة.

 

ورغم أن تهمة الوثوب لاغتصاب سيدة مسلمة خلال أنشطة اتحاد منظمات مسلمي فرنسا، وخلال الحملة الشرسة 2012م على رمضان، تبدو تهمة غريبة، على الأقل في ضوء قراءة الشخص العادي، وتقدير الرأي العام، فضلا عن تحليل شخصية د. رمضان، ولماذا يسعى لهذا الأمر، ألم يكن لانحرافه المفترض وسيلة أخرى أكثر تأمينا له؟

 

مادة الهجوم على الإسلام، والجزم بمسؤوليته التاريخية عن كل تخلف، هو تسييس ثقافي لا تثقيف للسياسة

فلندع القضاء الفرنسي يأخذ مجراه في قضية د. رمضان، ونعود إلى صلب المسار الفكري الذي يهمنا هنا، مذكّرين بأنه لا قداسة أو عصمة لأي أحد مارس أي شيء مناقض للعدالة والفضيلة، وأيضا أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن لا بد من التذكير بأن هناك شبقا هستيريا في الغرب اليوم لصناعة نماذج عديدة أو تبنيها من خلال أي تراجعات عن الإسلام، أو تدعو إلى نقض الإيمان بالفكر الإسلامي.

 

ثم الهجوم الإعلامي على الدين (المتخلّف) للمسلمين بعد إعلان هذه الضحية قرار تركها الإسلام، سواء كانت تحت ضغط لممارسات تطرف أو قصور، أو عنت ذكوري قد يصدر من المسلم وغير المسلم، وبالذات المسلمات المنتقبات اللائي يتحولن إلى مهاجمة الإسلام، أو الخروج إلى مساحة بعيدة عنه، بغض النظر عن الموقف الإيماني داخل وجدان هذا الإنسان، الذي يقرره بينه وبين خالقه، ولا يطّلع عليه أحد سواه.

 

إن المشكلة تبدأ بالاتضاح مع فهم موقف التحالف الإسلامفوبي القوي في فرنسا، وهو قد يتشكّل بصورة جدل فلسفي مختلف عن طرح ستيف بانون العسكري مثلا في الولايات المتحدة لقوة القاعدة الثقافية في عاصمة النور الأوروبية، لكن الخلاصة واحدة، وما نقصده هنا أن مادة الهجوم على الإسلام، والجزم بمسؤوليته التاريخية عن كل تخلف، هو تسييس ثقافي لا تثقيف للسياسة.

 

ونلاحظ في هذا الصدد إهمال الحوار الغربي الفلسفي لأي رؤى متوازنة تستعرض تاريخ الأديان، ومساهمات الشعوب، وتقف عند مادة الجدل الفكري والروحي لرحلة الإنسان، وأين الحقيقة، بل أين تنتصر مسيرة الكرامة، والعدالة الاجتماعية، وراحة الضمير والقيم العائلية الإنسانية للطفولة والمرأة والرجل، وسكينة الضمير بين أعضاء الرحلة الكونية.

 

ولا توجد على الإطلاق أي قواعد منصفة تم تدوينها في جدال فكري فلسفي يستعرض الرحلة العالمية، ويقف عند منتجات العالم الغربي والحداثة وما بعد الحداثة، وتقريرات فلاسفة غربيين وغيرهم عن فشل هذه الحداثة في رحلة الضمير، وعن فشلها في تحقيق التوازن الروحي والمادي، وعن جهد أولئك الفلاسفة من قبل ميشيل فوكو ومن بعده، ولماذا أعلنوا حفريات المعرفة للعهد الفلسفي الجديد.

 

إن الحالة الفرنسية رغم وجود قاعدة حيوية للفلسفة الاجتماعية فيها فإنها فيما يبدو ليست قادرة على وضع ميثاق قانوني للفلسفة الأخلاقية، تضمن شروط التعامل المنهجي، وعدالة التوزيع المعرفي
إن الحالة الفرنسية رغم وجود قاعدة حيوية للفلسفة الاجتماعية فيها فإنها فيما يبدو ليست قادرة على وضع ميثاق قانوني للفلسفة الأخلاقية، تضمن شروط التعامل المنهجي، وعدالة التوزيع المعرفي
 

غالب ما يجري -ولا نعمم- أن هناك لحظة اختطاف تاريخية تشارك فيها صناعة فلسفية غير أخلاقية، لا تقبل مطلقا بأن تكون هناك منصة حوار موضوعية لأزمة العالم والإنسان أمام إحصاءات ضخمة لعدد القتلى والضحايا، منذ أن هيمنت الفلسفة الغربية الحديثة على أروقة الجامعات، وأصبحت مقصد القياس المركزي في ثقافة العالم.

 

وتشاركت ضمنيا أو وظفت في رسم قاعدة الانطلاق للفكرة الجديدة التي تغزو العالم وتبشر بتفوقها، دون منصات حوار وجدل مكثف تَتَبع مشتركات الرحلة الإنسانية ومفترقات الفلسفات المختلفة، ودون إعادة جرد أو محاولة تحييد أصول التنظير الفلسفي الغربي عن صناعة العسكرتارية الغربية، ودورها في خلق الطبقية الكبرى في عالم الإنسان الحديث.

 

ولا يعني ذلك عدم وجود شخصيات ومنصات منصفة كنعوم شومسكي وآلن غريش وغيرهم، غير أن الغالبية ليست أبدا في اتجاه النقد المعرفي المنصف مع الشرق، ولا يزال ذات المحور الذي فكك مشروعيته إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" قائما حتى اليوم.

 

إن الحالة الفرنسية رغم وجود قاعدة حيوية للفلسفة الاجتماعية فيها فإنها فيما يبدو ليست قادرة على وضع ميثاق قانوني للفلسفة الأخلاقية، تضمن شروط التعامل المنهجي، وعدالة التوزيع المعرفي، واستكمال أدوات الحفر الفكرية قبل أن تُعلن هذه الثقافة أو تلك إرثا إنسانيا فاشلا أو عاجزا، وبالتالي يُفتح المسرح الكوني للتفرغ الغربي بناء على هذا الزعم، وهذه الحالة التي تشمل أوروبا والولايات المتحدة الأميركية تستخدم منصات وشخصيات فكر، لكنها تحارِب المستهدفين بسلاح الإعلام والسياسة في دول الاتحاد الأوروبي كما هي في واشنطن.

 

الاستقلال الثقافي في أوروبا ليس كما تصور الشرق، فقوة التسييس والتحريض المصلحي عطّلت كثيرا من فرص الجدل الحضاري المفيد، لكن رغم ذلك هناك مؤشرات قوية على ميلاد نظرية حفرية المعرفة الإسلامي

وبالتالي ما يضيع هنا أو ما يُحارب أو يُحيّد هو إرث معرفي حق للإنسانية كما هو حق ليفهم الشرق المسلم معادلته الفكرية المستقلة لصالح الإنسانية، بناء على دلائل النص العميقة، واستنباطات العقل المسلم، القديم والجديد، وعليه تُطرح ثمرة بحثه أمام العالم، وهو يحكم حين يتم الانتخاب الموضوعي لعلامات التفوق الحضاري، والسلم النفسي للوجدان الإنساني.

 

وهو خطاب لا ينتجه التطرف ولا منصات الاستبداد التي تسحق إنسان الشرق، في حين كثير من بوابات المعرفة العالمية ليست مرحبة به، ولا تسعى لفهم المشتركات بقدر ما تسعى لخنقه بعيدا عن ماراثون الاستدلال السطحي الكاذب، الذي يتتبع المواقف الفردية المتمردة على الإسلام بسبب أخلاقي مفهوم (أي حالة ظلم تعرضت لها من مسلم)، أو انتهازية شخصية للحصول على ظهور ودعم إعلامي سياسي.

 

وقد كان دخول طارق رمضان عبر بوابة المعرفة والجدال الحضاري مستفزا لهذا اللوبي، خاصة أنه يمثل حالة مواجهة للفكر المتطرف في الشرق، ومباشرته بصناعة آلية حفر معرفي جديدة تكون جسرا بين ثقافة الشرق والغرب، وتعتمد الحق المعرفي الإنساني والبنية الديمقراطية في المناظرة، هو حالة تحدٍ لهذا التحالف، رغم أنه كان يفترض أن يُقبل كحالة شراكة معرفية مرحب بها، فحصل العكس وطُورد بشراسة من منصة البرلمان إلى آخر صحيفة شعبية تُتابعه لشيطنته قبل أن توجه له هذه التهم بسنوات.

 

وضعف تضامن المعهد الفلسفي مع طارق رمضان كمسار أخلاقي داخل أروقة الباحثين الثقافيين والفلاسفة الغربيين يؤكد حجم هيمنة هذه القوى والتحالفات، التي نشأت بناء على قناعة سياسية منحازة أو كراهية غيورة، أو حتى الخشية على طبائع أو نزوات شخصية تجمع بين بعض المتحالفين، أو استعلاء متطرف خشي من تأثير حضور رمضان، وهذا لا يعني مطلقا عدم وجود منصفين أو فلاسفة أخلاقيين يدعون إلى التوقف لفهم التهمة وانتظار الحكم.

 

لكن ما يمكن أن أسجله من انطباع سابق، فهمته في باريس في زيارة لها في (يونيو/حزيران) 2017، أن هذه الشخصيات لا تستطيع أن تعرّض ذاتها ومساحتها المتاحة للتعبير لخطر حصار إنتاجها أو حملات شيطنتها، لكون الاستقلال الثقافي في أوروبا ليس كما تصور الشرق، فقوة التسييس والتحريض المصلحي عطّلت كثيرا من فرص الجدل الحضاري المفيد، لكن رغم ذلك هناك مؤشرات قوية على ميلاد نظرية حفرية المعرفة الإسلامي.

 

وربما هذا الميلاد هو أحد أسباب الحملات الثقافية والإعلامية الشرسة، فهزيمة الفكر الإسلامي الفلسفي يفترض بحسب تقدير هذا التحالف الإسلامفوبي أن يكون تبعا لهزيمة واقعة تحت سلطة الاستبداد في الشرق وتحت سلطة المصالح للغرب، وهو ما لم يتحقق اليوم، فلا تزال الفكرة الإسلامية تنافس وتطرح معادلة الانتصار الحضاري بين المادة والروح، والتي تُشكّل تصحيحا لخطأ الانحرافات الفلسفية، والبناء على ما صح منها كمشترك للعقل الإنساني الجمعي.

 

وهو علم يحتاج إلى العودة إلى نظرية ميشيل فوكو حفريات المعرفة، وما بعد الفوكوية، وأبرزها كتابات د. إدوارد سعيد، لتحرر المسألة العلمية وتعرض على مائدة العلم الحديث، شريطة أن تكون طاولة البحث مؤمنة بالمنهج الأخلاقي في الفلسفة، فالفلسفة التي تغيب عنها الأخلاق لن تكون إلا بيدر كراهية تؤسس لحروب تُبيد الإنسانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.