شعار قسم مدونات

الخادمة

blogs نشر الملابس

إحساس لا ريب فيه داهمها. شهقت وطفقت تتأملها بروية مرتعشة، تلك المرأة السبعينية كأنها تعرفها "روشيني! نعم هذا هو اسمها" تستطيع أن تميزها من بين المئات، هذه الشعيرات البيضاء لم تغيرها، هذه التجاعيد المرسومة بدقة متناهية حول فمها وعينيها لم تغبش الصورة، هذه العروق النافرة على الكفين تذكرها بالأيام التي قضتها عندهم خادمة. سيدة القصر أضحت، وتلونت الأيام بلون زاهٍ يا روشيني! طأطأت رأسها أرضاً، تنهدت بحرقة، دمعة ساخنة فرّت عنوة وهي تحدق في وجهها، كانت صغيرة لا يمكن أن تتذكرها، لم تقل لها شيئاً لكن صوت أنفاسها حمل الكثير.

أهكذا هي الحياة، تتلون كالحرباء، أهكذا تنزل الشمس عن أكتافنا لتعانق رؤوسهم! عام الرمادة عاد، لم يبق ولم يذر، عام الرمادة توالد أعواماً وراء أعوام، هدنا الجوع، من قال إن علينا أن نبني أبراجاً عالية حتى نمسك بتلابيب الحضارة! تباً للأبراج العالية وويل لهذا البذخ الذي سكن أرواحنا ظمأ وجوع! ويل لمن يحرث البحر بينما الأرض تنادي! النفط في بلادنا تحوّل إلى أحجار! نسوا الإنسان.. فكانت المعادلة البلهاء (أبراج عالية وعقول خاوية).

 

من نور القصور إلى ظلمة الجحور، ومن الهواء البارد الناعم إلى هواء وطب لزج خانق! ومما لذّ وطاب إلى أيدٍ صغيرة تتنازع رغيف خبز! في سيرلانكا ملامح عربية تائهة، تتنفس القهر والوجع، بساتين شاي لا يتجاوز ارتفاعها المتر الواحد على امتداد البصر، نساء نشيطات يعملن بجد ونشاط، يجنين أوراق الشاي منذ الصباح الباكر، يضعنها في سلال خاصة، يحملنها على ظهورهن بخفة ورشاقة.. سيرلانكا تضئ بالنساء العربيات وتختنق ببكاء الصغار الذين يتشبثون بأثواب أمهاتهم الغائبات!

تعود بذاكرتها إلى أول يوم دخلت فيه القصر.. بخطى صماء وأنفاس مرتعشة وعيون زائغة. لم تكن تحمل معها من رائحة الوطن سوى تلك الحقيبة البالية التي تحضن صورة لأطفالها الستة الجياع وزوجها العاطل عن العمل

في كل ليلة تسافر إليهم، تنام في فراشهم.. فيشدها آخر العنقود من ثوبها إلى كل أشيائه الجميلة، إلى أرجوحته المربوطة بين نخلتين حزينتين، ضحكته التي تعلو كلما دغدغت رقبته وأقدامه الصغيرة الناعمة تفتح غرف القلب المهجور!

تشدّ غطاءها عندما تتأكد أنها لم تبرح مكانها في هذا القصر الفسيح، ترتل.. زملّوني، دثّروني، بينما يطير الصغير بجناحيه ليغفو على وسادة قلبها، تزيح بأصابعها المجروحة خصلات شعره الأسود المنسدل الذي يداعب وجهها المتعب المضيء، وتغمض عينيها على دمعة حرّى فتدس الحلم بين أهدابها فتنام قريرة العين وأنفاسها تردد "غداً نعود لبلادنا" وما أن توشك على حمل حقائبها حتى تباغتها سيدة القصر العجوز بصرخة مدوية، فتصحو تلملم شعثها وتمسح غبار أحلامها!

سيدة القصر أضحت هذه العجوز.. وتلوّنت الأيام بلون زاه ياروشيني! تعود بذاكرتها إلى أول يوم دخلت فيه القصر.. بخطى صماء وأنفاس مرتعشة وعيون زائغة. لم تكن تحمل معها من رائحة الوطن سوى تلك الحقيبة البالية التي تحضن صورة لأطفالها الستة الجياع وزوجها العاطل عن العمل.

أُلقي في روعها حينها أن أيّامها القادمة لن تكون سهلة أبداً، فقد فتحت السيدة حقيبتها، فتشتها بقرف، رمت بملابسها القديمة الرثة في سلة النفايات، أعطتها ملابس جديدة (الساري) أدخلتها الحمام وأشرفت على قصّ جدائلها السوداء اللامعة بنفسها. كثيراً ما سألت نفسها إن كان من الحكمة أن تستمر وكثيراً ما كانت الإجابة صورة الأطفال الجياع!

مريم العربية صارت خادمة، تلبس الساري، والقصر العربي عاد خيمة بعدما اشتعلت النار في أرجاء الجسد الواحد، والبطون الممتلئة أضحت خاوية.. سنوات مريرة وبطيئة ودبقة تخشى أن تفقدها توازنها وصبرها.. أنفاسها تلتصق ببعضها وتتسارع عندما سمعت كلمات كثيرة متداخلة لم تفهم منها شيئاً.. صمت الكل وهي تقترب من جمع النساء، تتنهد سيدة القصر العجوز وبحسرة تخبرها أن الحكومة السيرلانكية قررت طرد ثلاثة آلاف عاملة عربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.