شعار قسم مدونات

ما بين لطمية دمشق وصلاة باريس

blogs - الحركة الإسلامية في أوروبا

في مشهدين اثنين، أحدهم حدث في الأسبوع الماضي في سوق "الحمدية" الدمشقي الشهير. والآخر في شوارع "كليشي سوبوا" الضاحية الباريسية الفقيرة. حصل أمران يكادان يكشفان تماماً طريقة التفكير المتناقضة التي يعيشها البعض منا اليوم. ولست بقصد التعميم هنا. لكن القصة لها من الرمزية الكافية لتسمح لي بإيصال رسالة بسيطة، تثبت وللمرة الألف بأن العلمانية الحقيقية هي سبيل خلاصنا الوحيد من مشاكلنا في سوريا.

 

القصة الأولى كانت في صباح يوم ليس ببعيد في دمشق، حدثت بالضبط بالقرب من الجامع الأموي، مشهد تناقلته كاميرات الهواتف النقالة وانتقده ودافع عنه الجميع دون تمييز بين مواليين للنظام السوري أو معارضين له. حيث أن مجموعة من الأخوة والأخوات الشيعة قاموا بإحياء إحدى أعيادهم الدينية في شوارع دمشق، كان رجالهم عاريي الصدور يصرخون ويبكون في ذكرى من ذكراهم الدينية، ونسائهم مغطاة الرؤوس يلبسن السواد الذي غطى أجسادهن. رجالهم يضربون بيدهم اليمنى بعد أن ابتعدت لأقصى نقطة عن جسدهم ولتردد سريعا ضاربة صدورهم، تاركةً لأثر الألم والحزن يكتسح تلك الصدور، كما كانت دموع نسائهم ورائهم تنهمر بدون انقطاع تعبيراً عن ندم لما ارتكبه الأجداد في الزمن البعيد. كان الصراخ وكأنه على القافية، يتبع إيقاعاً معيناً قد تطرب له آذان من يؤمن بأهمية هذا اليوم. من حولهم كان أصحاب المحلات ينظرون باستغراب وتعجب إلى هؤلاء الحجاج، للعلم فقط يعتبر هؤلاء التجار من أهم تجار دمشق، فهم يمثلون للكثيرين منا أحد أهم رموز دمشق اليوم، فالتاجر الدمشقي بنظر الكثير من السوريين هو التاجر الأكثر خبرة ومهارة (طبعا لن تجدوا من يقول عن مائه بأنه عكر وأنا أولهم).

 

استهجن العديد من السوريين ومنهم أنا هذه الظاهرة… لم نعتد عليها قبل الحرب، لم نشهدها بهذا الوضوح وبهذا الزخم من قبل. خاصة مع ارتفاع درجة تلك الحزازات والتي تصل إلى الكراهية خلال العشرين عاماً الماضيين. فلا داعي لنكران أمرٍ جليّ للكثيرين. علاقة الحب والمودة والاحترام تكاد تنعدم أو تختفي في الشرق الأوسط بين التيارين الإسلاميين. إلا اللهم أمام الكاميرات وبعض المؤتمرات التي لا يصل بينها الختامي لأحد. شهدنا على هذا في لبنان وعززناه في العراق وأكدنا عليه اليوم في اليمن وسوريا.

 

اتصلت بأحد الأصدقاء في دمشق ممن يملكون أحد تلك المحلات العريقة وسألته عن الوضع بعد يوم واحد فقط من تلك الظاهرة، فقال لي "ما بوسعنا أن نقوم به؟ لا شيء!، ولكن والله العظيم ليس لدينا مشكلة معهم -يقصد هنا إخوتنا الشيعة-، ولكننا شعرنا أنهم يستفزوننا بكل بساطة". كما قال لي أنه سمع دون أن يتأكد من الخبر، بأن الشرطة في دمشق قد توجهت إلى الوفد الديني وفرقته وحولت قسماً منه إلى أحد المعابد الشيعية هناك. 

 

تناقل السوريون المشهد، اشتعلت معه وسائل التواصل الاجتماعي، تكاثر الكلام، استهجن الكثير منا هذا الأمر.. فهاذا المنظر لا يدل على عادات أهل دمشق ذو الأغلبية السنية. ولكن هل هذه الأغلبية لها الحق في أن تمتلك كل المظاهر في دمشق؟ طبعاً لا فدمشق هي للجميع بأغلبيتها وأقلياتها. لا أستطيع تخيل البلد بدون باب توما ذو الصبغة المسيحية، أوالست زينب ذو الصبغة الشيعية. ولكن هناك من ذهب إلى أبعد من هذا فقالوا "نحن لسنا ضد الممارسة الدينية التي لا تتبنى الأذية، ونحن نعرف تلك الطقوس التي تعتمد على السيف وضرب رأس حامله حتى الإدماء، لا أريد لطفلي أو زوجتي أن يروا ذلك في الطريق، لم نختر هذا الأمر، فلا تفرضوه علينا". ولكني للأمانة هنا لم أرى في كل الفيديوهات المتناقلة من ذاك اليوم وقد أكون على خطأ أياً من هؤلاء وقد أقدم على إدماء نفسه. فأعظم الضرر كان ذاك العلام الأحمر الذي لون صدور هؤلاء الرجال. وأخيراً هناك من كان أكثر استيعاباً بنظري للموضوع، ويقترب فكري إليهم أكثر من غيرهم. فطالبوا باستقبال كل شيعة العالم إن أرادوا كحجاج لدمشق إن رغبوا بذلك، فلا ضرر ولا ضرار على شريطة أن الممارسة الدينية يجب أن تبقى داخل المعابد لا خارجها. مع اشتعال الاستهجان والنقاش بين غاضب ومستنكر، لم نصل إلى حل. ولم نسمع من الحكومة تعقيب رسمي على هذه الحادثة.

 

 مسلمو مدينة كليشي في الضلحية الباريسية يؤدون صلاة الجمعة في الشارع العام بعد غلق مسجدهم من طرف البلدية (الجزيرة)
 مسلمو مدينة كليشي في الضلحية الباريسية يؤدون صلاة الجمعة في الشارع العام بعد غلق مسجدهم من طرف البلدية (الجزيرة)

 

أما القصة التالية فقد حدثت في اليوم نفسه على بعد أكثر من ٣٥٠٠ كم، وبالتحديد في إحدى ضواحي باريس، فقد حدث حدثٌ جلل، أشعلت هذه القصة التوتر بين السكان هناك ووصل هذا التوتر إلى الساحة السياسية أولاً والإعلامية ثانياً. ففي هذه الضاحية ذات النسبة العالية من المسلمين، لا يوجد مسجد كبير ليستوعب المصلين جميعاً. مما اضطر الكثير منهم للصلاة خارج المسجد وبجانبه في الشوارع الضيقة المحيطة به. انقسم حينها الفرنسيون هناك إلى قسمين. أولهم يتهم الحكومة الفرنسية بأنها السبب، فلم تقدم الدولة إلى الناس هناك مكاناً كافياً لممارسة عقائدهم الدينية. وهذا واجب الدولة العلمانية. قد يبدوا الأمر غريباً للكثيرين، ولكنه واقع. فنعم على الدولة العلمانية أن تؤمن أماكن العبادة والصلاة لشعبها لتضمن لهم حرية ممارسة المعتقد وفصله عن محاور الحياة العامة. فبنظر هؤلاء لقد اضطر الناس لتجاوز القانون والصلاة في الشارع، هذا ليس بذنبهم.

 

أما القسم الثاني فهم أولئك الذين نظروا إلى الأمر وكأنه تهديد لعلمانية فرنسا التي طالما حاولوا حمايتها والحفاظ عليها على مدى عقود من الزمن. فهؤلاء المسلمون ليسوا مضطرين للصلاة في هذا الجامع بالتحديد، هناك جوامع أخرى كثيرة في باريس، ويمكن لمن استطاع إليها سبيلا الصلاة فيها بدون عناء أو تعب. القانون واضح والدولة تحمي مسلميها ومسيحييها ويهودها. والقانون فوق الجميع ويطبق على الجميع. كما هي حرية ممارسة المعتقد مكفولة للجميع ولكن ضمن شروط معينة. 

 

يقول وزير الداخلية الفرنسية "نعم الصلاة في الشارع ممنوعة ولا يجب أن نسمح بها، ولكن المواطنون الفرنسيون المسلمون يستحقون أن يكون لهم أماكن لائقة للعبادة، وهذه روح العملمانية"

لنقارن اليوم بين المشهدين، من ناحية رفض عدد لا بأس به من الناس تلك اللطمية في دمشق، ولكن ماذا كان رأيهم عن تلك الصلاة في شوارع باريس؟ للأمانة ومن متابعتي للبعض، ظهر فريق تناقد مع نفسه، وإليه تحديداً أريد التوجه اليوم بهذا المقال. فهذا الفريق رفض اللطمية ودافع عن الصلاة في الشارع. أليس هذا بعجيب؟ للأسف حاولت النقاش معهم.. ظانناً مني أنني بصدد دخول نقاش قد يثمر عن اقتناعي بفكرتهم أو اقتناعهم بفكرتي. ولكن لم نستطع تغير رأينا نحن الإثنين قيد أنملة. حججهم جاهزة، ليست بمنطقية من منظوري أبداً ولا تستند إلا على العاطفة. ولكن هذا التناقض لهو ثاني أغرب تناقض سمعت به في حياتي ويذكرني تماماً بالتناقض الأكثر غرابة، هو ذاك التناقض الذي ظهر عند من يبجل بالرئيس العراقي السابق صدام حسين ويدعم الربيع العربي في آن واحد. نعم هؤلاء موجودون صدقوني. 

 

أما كفانا عاطفة؟! أما حان الوقت لاستخدام العقول التي منينا بها؟ لنتوقف عن كيل قصيتين متشابهتين بمكيالين مختلفين. كفانا إغفالاً للحقيقة. إما أن نرفض اللطمية والصلاة بالشارع معاً وإما أن نسمح بالاثنتين.

 

أختتم مقالي هذا بما قاله وزير الداخلية الفرنسي جيرار كولومب الذي يتفاخر بانتمائه للمجلس الماسوني، لنرى كيف أن هذا الرجل العلماني، الفرنسي، وحتى الماسوني يفكر. "نعم فالصلاة في الشارع ممنوعة ولا يجب أن نسمح بها، ولكن المواطنون الفرنسيون المسلمون يستحقون أن يكون لهم أماكن لائقة للعبادة وممارسة شعائرهم الدينية، هذه هي روح العلمانية الفرنسية التي نفتخر بها". أما وزير الداخلية السوري فقد نسب إليه قرار موقع من رئيس الحكومة يمنع فيه ممارسة الشعائر الدينية في الشوارع.. سرعان ما اتضح أن القرار هو فيسبوكي بحت ومزور.. هذه هي روح القانون السوري التي لا نفتخر بها أبداً. 

 

العلمانية هي السبيل الوحيد الذي سيسمح لنا بقبول بعضنا البعض، هي السبيل الوحيد الذي سيحول التوتر السائد إلى سلام. هي الأمل الوحيد المتبقي لإعادة بناء بلاد تم تدميرها خلال سبع سنين. بانتظار قدوم العلمانية الحقيقية إلى بلدي سوريا والتي ستعيد حبنا لبلدنا ومجتمعنا تماما كما قال مارسيل خليفة: "سراً وعلانية". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.