شعار قسم مدونات

القرآن الكريم وألاعيبُ التّأويل

مدونات - القرآن

إذا انطلقنا من كلمة "تأويل" بحدّ ذاتها، فإنّنا نجدُ أنَّها كلمةٌ سيّئةُ السُّمعة وفي نفس الوقتِ تُعتبرُ من بين الكَلمات الغامضة، والتي تَعني جَذب مَعنى النّص وتَرويضه بطريقةٍ تخدمُ أغراض وأهداف المُفسّر الشخصيّة والذّاتية، البَعيدة عنِ المعنَى الحقِيقي الذي يرمِي إليه النّص، مُستعِينًا في ذلك بمُمارسته وحذاقته، من أجلِ الهيمنَة على الجُموع.

ولمّا كانت لغتُنا مَرِنَة، ثريّة بالمُترادفات ولها اشتقاقاتٌ لا تنتهي، فقد فُتِحَ المجَال لجُموع المؤوّلين والمتفقّهين بتحوِيل المَعاني الجَوهريّة الواضحة المحددة في السرديات الدينية، وتوظيف المضادّة لتتوافق مع مَصالح المُنتفعين والمُتنفذين. لكنّ المنهج الأساسي للتّفسير لم يَكُن أبدًا قائمًا على الاستدلال بالتشِّهي أو العبث أو الموهبة.. وإنّما بالدليل، حيثُ يتمّ ذكر كلّ ما قد تحتمله الكلمة من معاني، ثمّ يُرجَّحُ المعنى المُراد بناءً على النّص الذي وردت فيه، أو السّياق والسّباق، أو الأصول العامّة للشريعة.

هُناك من العُلماء والفُقهاء العرب في مُختلف الدول الإسلاميّة، من جعلوا من الدّين مُضغةً في أفواههم، يُلبسون الحقّ بالباطِل في تصريحاتهم، ويتلوّنون في كلامهم فلا تستطيعُ أن تأخُذ منهم مأخذًا
هُناك من العُلماء والفُقهاء العرب في مُختلف الدول الإسلاميّة، من جعلوا من الدّين مُضغةً في أفواههم، يُلبسون الحقّ بالباطِل في تصريحاتهم، ويتلوّنون في كلامهم فلا تستطيعُ أن تأخُذ منهم مأخذًا
 

وللأسف فقد صار القرآن اليوم لعبة في يد السياسيّين والعلمانيّين العرب، وغيرهم ممَّن يَسعون للهَيمنة على الأمَم الإسلاميّة فهُم يَعلمون تمامًا أنّ الوسيلة الوحيدة التي تُمكّنهم من الوصُول إلى مُبتغاهم هذا، هي أن يستند المُتحدّثون إلى الأجيال الإسلاميّة المُعاصرة في قولهم إلى أكثر من مُجرّد خطابات منمّقة، وقولاً مُلمّعًا زائفًا يَبدو جميلاَ ويبعَثُ الأمل لدى البسطاء، فيجب أن يُثبَت لها ألا تناقض بين ما يصرّحون به وما في القرآن… بل أنّه من كلام الله، وأنه لا يجُوز الخوض فيه قليلاً أو كثيراً، وبذلك يسهل خداع السذج ويَتعزّز الفهم المَغلوط لكلّ شيءٍ عبر التأويل وتمويه الحقيقة وراء كل قول، فالتأويل بنظر هؤلاء المُتلاعبين هو الصَّخرة العاتية التي تُكسر عليها وحدة الفكر الإسلامي.

فالخطاب العلماني مثلاً هو صورة عربيّة عن الهرمينوطيقيّة الغربيّة (hermenuo، بمعنى تفسير وتأويل)، يسعى إلى إزالة صِفة "القداسة" عن القرآن الكريم، ليَكون محلاًّ للنّقد فيكون بذلك كغيره من الكُتب، وإلى انتهاك النّصوص القرآنيّة عن طريق التأويل، لأن التأويل صَرفٌ للفظ إلى معنى يحتمله، بل إنّ غايتهُ أكثر من ذلك بكثير، إنّ غايتهُ هي التفكيك الذي يقْطع الصّلة بين النّص وقائله وبين المَعنى واحتمالاته، فيُدلس المعنى إبعادًا عن الجوهر الأساسي للنّص.

وهُناك من العُلماء والفُقهاء العرب في مُختلف الدول الإسلاميّة، من جعلوا من الدّين مُضغةً في أفواههم، يُلبسون الحقّ بالباطِل في تصريحاتهم، ويتلوّنون في كلامهم فلا تستطيعُ أن تأخُذ منهم مأخذًا، وإن واجهتهُم قالوا بقول الإمام علي -رضي الله عنه-: "القرآن حمّال أوجه"، والحقيقة أنّ المقصود هُنا ليس كلّ القرآن، ففي قوله تعالى في أوائل سورة آل عمران: "هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ"، فكما فيه آيات متشابِهَات، ففيه أيضًا آياتٌ واضحاتُ الدلالة تفسّرُ نفسها، هي "أمُّ الكتاب" أي مُعظمه، فالقرآن في مُعظمه يُفهم بأسلوبه البسيط الواضح وبالمعاني الأولى للكلمات.

على المُسلم أن يعلمَ عِلم اليقين أنّ إسلامه لا يتمّ إلاّ إذا انطوى في قلبه على تبجيلٍ شديد لكتاب الله عز وجل، وتمجيدٍ وتعظيمٍ لكلماته سبحانه وتعالى
على المُسلم أن يعلمَ عِلم اليقين أنّ إسلامه لا يتمّ إلاّ إذا انطوى في قلبه على تبجيلٍ شديد لكتاب الله عز وجل، وتمجيدٍ وتعظيمٍ لكلماته سبحانه وتعالى
 

وكل من يحاول أن يأخذ بالمتشابهاتِ أو بالمعاني الثانوية والشاذة فهو يُحاول أن يستعرض معارفه اللغوية، التي بمقدار ما تكون مفيدةً ونافعةً في تحفيز الفكر على التأمّل والتّجديد، وتنشيط الخيال الإنساني، وإثراء النّصوص الأدبيّة بألوان من التداعيات الإبداعية تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعيّة هذه لتكون أداة تقويليّة أو تحريفيّة في النّصوص الدينيّة الشرعيّة، بأفكارٍ ملتبسة توحي بلغتِها الغامضة المُلتفّة إلى نَقيضِ ما تُضمِره من معاني، كما أنّ هُناكَ فرقٌ بين التجديد وما قد أسمّيه بالتّبديد، فالتّجديد يكونُ بالاجتهاد الحقيقي في أشياء تقبَلُ التّجديد، فهُناكَ ثوابت لا تقبلُه: ثوابتٌ في العقيدة، في الشّريعة، في الأخلاق.. التّجديدُ فيها يعتبرُ تحريفًا. وإمّا يريد أن يُأوّل القرآن ليتّفق مع ما يريد.

وبقدر ما يُعتبرُ هذا تلاعبًا بالدّين بقدر ما هو عدم إعطاء القرآن حقّه وقدرهُ، فكانت الفتوى والخوضُ في آياتِ الله لكلّ من هبّ ودبّ. وبعيدًا عن هذه (النّخبة) من المؤوّلين المُتلاعبين، نجدُ أيضًا بعض الشّباب المُثقّف من يحفظُ من القرآن ما ينفعُه، فلا يملكُ في رصيده الدّينيّ غيرها، ليستخدمها في غير ما أنزلت له، ليُحرّف بذلكَ الكَلِم عن مواضِعه… فهذا هو الذي ينعقُ بما لا يفقه، ويهرفُ بما لا يعرِف، وقد قال الله سُبحانه وتعالى عن أمثاله: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ".

إنّ على المُسلم أن يعلمَ عِلم اليقين أنّ إسلامه لا يتمّ إلاّ إذا انطوى في قلبه على تبجيلٍ شديد لكتاب الله عز وجل، وتمجيدٍ وتعظيمٍ لكلماته سبحانه وتعالى، وأنّ قداسة القرآن هي بُعدٌ بدهي لا يمكن تجاوزه أو غضَّ الطّرف عنه، لأنّها تُشكّلُ حاجزًا بينه وبين العبث، وهذا ليس أيُّ عبث فهو تحريفٌ لما ورد عن الله عزّ وجلّ، ثمّ أنّه لا يوجد أي تناقض بين هذه القداسة، وبين الشرح والفهم عن الله عز وجل، فقد أنزلهُ ليُفهم أولاً، وأحال ذلك إلى أهل الذكر، وأهل العلم، لقوله تعالى: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"، وقال أيضًا: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.