شعار قسم مدونات

سيناء.. من قتل الناس بمسجد الروضة؟!

blogs - سيناء مسجد الروضة إرهاب

ذات ليلة رمضانية، سنة 1997، في إحدى قرى "تابلاط" الهادئة، التابعة لولاية "المدية" بالجزائر، كان معظم رجال القرية يصلون صلاة التراويح بمسجدها، حين عمد مسلحون من الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا" إلى إغلاق أبواب المسجد من الخارج على من فيه.

 

هرع المصلون ليستطلعوا الأمر، فقبض عليهم المسلحون، كانوا يسألونهم إن كانوا قد صوتوا في الانتخابات التشريعية التي عقدت آنذاك، وذلك لأن الانتخابات -خاصة التشريعية- شركٌ أكبرٌ مخرج من الملة، يقولون لكل منهم: "صوتيت؟" أي: انتخبت؟ فيقول المسكين: خفتُ من الحكومة والله، وقد هددوا من لا يصوت، "وصوتيت"، فيذبحه المسلحون في الحال. أما من حاول النجاة فقال: لم أصوت، فيقولون له: قف هناك. فلما انتهوا من الذين صوتوا، عمدوا إلى الباقين، الذين زعموا أنهم لم يصوتوا، فذبحوهم أيضًا! في مشهدٍ شديد العبثية والألم والسخرية المُرّة!

 

ابتدؤوا بتكفير الجيش والشرطة، ثم تطوّروا إلى تكفير مناصري الدولة، ثم كل من لم يؤيدهم، حتى كفروا الناس كلّهم، ثم كفّر بعضهم بعضًا، وتقاتلوا فيما بينهم أشدّ القتال

لم يستخدموا أسلحةً نارية، ولا ذبحوهم بسكين "أوبينال" الفرنسي الحاد الذي كانوا يفضلونه، بل ضربوهم ضربًا بالــ "شاقور" وهو شيء مثل الفأس، وهم يشخرون وينخرون حتى ضجّ فضاء القرية بأصواتهم. والقصة لم أنقلها عن بيان الداخلية الجزائرية، ولا عن وثائقيّ بثته التلفزة الرسمية، بل هي بشهادة عطية الله الليبي أحد الذين عايشوا تلك المُدة في الجزائر، ثم أصبح فيما بعد أحد أبرز قادة "القاعدة" ومنظريها.

 

يحلو للناس اليوم أن يتهموا "المخابرات" والأنظمة، بالوقوف خلف مجزرة بشعة، تستهدفُ مصلّين في صلاة الجمعة، إذ لا يُعقل أن يفعلها من ينتسب إلى العمل للإسلام، مهما بلغ جنونه وتطرّفه، وكذلك فإن الأنظمة ومن خلفها هم المستفيد الوحيد من مثل هذا الإجرام! في الكلام بعضُ المنطق، لكنني -للأسف- لا أظنّه حقيقيًّا! يقول عطية الله الليبيّ في التسجيل نفسه: "نرى الناس على الإنترنت يتداولون كلامًا كثيرًا، ويتحدثون عن الحرب القذرة في الجزائر ويكتبون، ويقولون: الحكومة تقتل الناس، دعهم يقولون، نحن نستر على أهل الإسلام، لكن الحق أن كل هذه المجازر الكبيرة كانت من صنعهم "أي: الجماعة الإسلامية المسلحة".

 

والقصة التي صدّرتُ بها المقالة نقطةٌ في بحر جرائم هؤلاء، وإلا فقد كفّروا الناس بالعموم، واستباحوا قتل صغارهم وسبي نسائهم، ابتدؤوا بتكفير الجيش والشرطة، ثم تطوّروا إلى تكفير مناصري الدولة، ثم كل من لم يؤيدهم، ثم الولايات التي صوتت لحزب السلطة، حتى صاروا يصنفون الولايات مرتدة ومسلمة، ويتناقلون أن أول ولاية صنفت على الردة هي ولاية تيبازة، وكانت لوحات سيارات هذه الولاية تبدأ برقم "42"، فكانوا كلما عثروا بسيارة أو باص تحملُ لوحته رقم "42"، ذبحوا من فيه! ثم تطوروا حتى كفروا الناس كلّهم، ثم كفّر بعضهم بعضًا، وتقاتلوا فيما بينهم أشدّ القتال.  

 

أما المسجدُ الذي استُهدف بسيناء فهو تابعٌ للصوفية، وهم في النظرة الداعشيّة مشركون كفّار، وقد قامت الدعوة الوهابية من الأصل على محاربة هؤلاء، وأكبرُ الذم والهجوم والتكفير في تراثهم منصبٌّ عليهم تحديدًا، وهذا نصٌّ أنقله بحروفه من "الدرر السنيّة" إحدى أهمّ مدوّنات التراث الوهابيّ، وقد طبعت بتمويل سعوديّ، وبتقريظ من جمهرة من أئمة آل الشيخ، من بينهم مفتي السعودية الرسمي الأسبق محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وهذا نص الفتوى:

" أما من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهو مقيم على شركه، يدعو الموتى، ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهذا كافر مشرك، حلال الدم والمال، وإن قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم".

وهذا نصّ من نصوصٍ كثيرة بهذا المعنى وأفظع منه، فدم هؤلاء الصوفية عند الوهابية أحلّ من الماء البارد، فلا عجب أن يُعدّ قربةَ إلى الله عند الدواعش.

 

صور للقتلى داخل مسجد مسجد الروضة غرب مدينة العريش في سيناء (مواقع التواصل)
صور للقتلى داخل مسجد مسجد الروضة غرب مدينة العريش في سيناء (مواقع التواصل)

 

نعم، لا منطق فيما يصنعه هؤلاء، وهم لا شكّ "ملعوبٌ في أساسهم" من كل مخابرات الأرض، وهم مهيئون ومستعدون لفعل كل ما يمكنه أن يساعد الأنظمة و"إسرائيل" وصفقة القرن، لكنهم حين يفعلون ذلك، لا يفعلونه بتخطيط مخابراتيّ ولا تكليف أمنيّ بالضرورة، إنما يفعلونه لله وفي الله، وفي سبيل الله، مقتنعين أنهم يتقربون إليه بما يصنعون.

 

ستستفيدُ السلطات الانقلابية حتى آخر نفس من المجزرة، ولعلّها ستُعدم أناسًا، وتزيدُ من بطشها وإجرامها، وتهجّر أهالي سيناء، وتستغلّ الدم أبشع استغلال في تنفيذ مخططاتها الآثمة، لكن هذا كلّه لا يعني أنها تقف بالضرورة خلف المجزرة وقوفًا مباشرًا.

 

إنّ آخر ما يعنيني في هذه المقالة هو أن أدافع عن الأنظمة المجرمة، أو عن المخابرات العالمية، ولا أدّعي أنها بعيدةٌ عما يجري بالمطلق، لكن الذي أتوقعه هو أنّ ما جرى في مسجد الروضة ببئر العبد، لم يكن تدبيرًا مخابراتيًّا، وإن استفادت منه كل أجهزة المخابرات والأمن في العالم، بل هو تطوّر طبيعيّ للجماعات الإسلامية المسلحة التي تنتهج العنف في حربها ضدّ الأنظمة المجرمة.

 

لا أبرّئ السلطات بحال، بل إنني أعتقدُ اعتقادًا جازمًا أنها تتحمّلُ المسؤولية الأولى عن هذا الإجرام، وعن كل ما سبقه وسيلحقه، فهي التي صنعته، صنعته مرّتين: مرّةً حين أغلقت المجال السياسيّ في البلاد، وقطعت على الإسلاميين المعتدلين المحتكمين للديمقراطية، فرص التنافس على الحكم من خلال الصندوق، فأفسحت المجال لهؤلاء المختلين وأفكارهم. ومرّةً أخرى حين أفرطت في العنف، في مواجهة العزل السلميين، وكذلك في حربها الهزيلة الفاشلة على الإرهاب، والعنفُ لا يلدُ إلا عنفًا أشدّ وأعظم وأقبح!

 

لم تكن جماعة "أنصار بيت المقدس"، التي تحولت بعدُ إلى "ولاية سيناء" تعتنق هذا المستوى من الأفكار التكفيرية، ولا والغةً في الدماء إلى الحدّ الذي نراه الآن، لكنّها شهدت تحوّلات كبيرة، منذ الانقلاب حتى يومنا هذا، وقد وثّق ذلك الصحفيّ المصريّ الشهير، الخبير بشؤون سيناء وجماعاتها المسلحة، إسماعيل الإسكندراني، حيث قال:

"السبب المباشر في تطور الجماعة في هذا الاتجاه الخطير (أي: التكفير) هو ما رأوه في مذابح دار الحرس الجمهوري والمنصة وفض اعتصامي "رابعة" و"النهضة" من حرب على "الإسلام" وليس ضد الإخوان وأنصارهم. تسببت مذابح السلطة ضد معتصمي أنصار الإخوان ومتظاهريهم في تجرؤ "أنصار بيت المقدس" على تكفير الجيش والشرطة، وهو ما فتح فصلاً جديداً في قصة تلك الجماعة المثيرة للجدل". 

لم تسمع السلطة من إسماعيل تحليله، ولم تنتفع به، بل لجّت في غيّها وظلمها، وألقت بإسماعيل في غياهب السجون!

 

فض اعتصام رابعة (الألمانية)
فض اعتصام رابعة (الألمانية)

 

وليس بعيدًا من المسؤولية كل من سعى في قتل التجربة الإسلامية الديمقراطية في مهدها، وإقصاء الإسلاميين عن الحكم بقوة السلاح، واستجداء الجيش للتدخل من أجل قمعهم والانقلاب عليهم، من أدعياء المدنية والتحضّر، وقد كان لهؤلاء سلفٌ يشبههم جدًّا في الجزائر، خرج بعضهم في يناير 1992 محتجين على تقدم الإسلاميين، رافعين شعار: "من أجل الديمقراطية، لا إسلاميين ولا عسكريين!" فيا لسخرية التاريخ المكرور!

 

وطائفةٌ منهم رضوا بانقلاب عسكر الجزائر على الإسلاميين، كما شهد عليهم مقرّبٌ منهم، الأستاذ نصر الله يوس في كتابه "من قتل في بن طلحة؟"، حين قال: "أولئك الديمقراطيون الذين لم يجدوا غضاضةً في الانقلاب، ولم يسموه باسمه الحقيقي"، فما أشبه ديمقراطيي الجزائر آنذاك، بمدنيي مصر في 2013.

 

ما أسخف الحياة حين ترى مثل هذا يتكرر في بلداننا بكل هذه التفاصيل القاسية والمروّعة والمثيرة للغثيان!

 

في مقالةٍ سابقة، توقّعتُ أن مصر دخلت رسميًّا العشرية الجزائرية السوداء، لكنني -يشهد الله- لم أكن أتوقع أن يتسارعُ الأمرُ بهذا القدر، وتتداخل المراحل إلى هذا الحد! نسأل الله لمصر السلامة والسلام، والخلاص من الظلمة والقتلة أجمعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.