شعار قسم مدونات

وعد بلفور والواجب الفلسطيني

Blogs- فلسطين

عندما يتمعّن الإنسان جيداً قد لا يصدق أن مائة عام قد مرت هكذا، وأننا نحن أبناء الجيل الثالث من الفلسطينيين الذين عانوا النكبات المتواصلة ما زلنا نكتب عن ذلك الحدث الممتد بين قرنين، والذي خطته يد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1917. لقد رسم "وعد بلفور" حداً فاصلاً بين العدالة والمصلحة، بين الحقيقة والإنكار، بين الحق واللاحق، بين أصحاب الأرض والأرض. 

 

في الوقت الذي لا يمكن فيه لأحد تبرير وعد بلفور، الذي منح فيه من لا يملك أرضاً لمن لا يستحق، فإنه ليس عصياً على الفهم. يمكن بنظرة فاحصة إلى البيئة الدولية التي كانت سائدة في ذلك الوقت التوصل بشكل سلس إلى الدوافع الرئيسة التي حثت بريطانيا على إصدار الوعد الأكثر جدلاً في تاريخها الحديث. وحيث إن المقام لا يتسع للحديث عن البيئة السياسية التي أحاطت بإصدار وعد بلفور بنوع من التفصيل فإنه يكفي التأكيد على حقيقةٍ مركزيةٍ مفادُها، أن الدافع الحقيقي وراء وعد بلفور يتلخص بالحسابات الجيواستراتيجية للإمبراطورية البريطانية، والمتعلقة أساساً بالانتصار في الحرب العالمية الأولى على الألمان، وتأمين مراكز نفوذها الدولية في وجه منافسيها الكبار وعلى رأسهم فرنسا وروسيا.

   
في زمن الحرب لا تكتفي الدبلوماسية أن تكون أداة من أدوات السياسية بل سلاحاً من أسلحة الحرب. لقد آمن صانعو القرار في لندن بأن الانتصار على الألمان في الحرب لا يقتصر على المجهود الحربي في الجبهات الميدانية، بل يتعداه إلى عالم الدبلوماسية والقرارات الاستراتيجية. وقد وجدت بريطانيا نفسها في معضلة معقدة؛ فقد كانت محاطة أولاً بأعداء شرسين تمثّلوا بدول المحور (ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية – المجرية، والإمبراطورية العثمانية المتداعية)، وثانياً بحلفاء متربّصين على رأسهم فرنسا وروسيا، وإلى حدّ ما الولايات المتحدة التي أظهرت قوّتها المتنامية استعداداً لخلافة الدول الكبرى على صدارة المشهد الدولي. ولذلك كان على الإنجليز التحرك على عدة جبهات بشكل متزامن.

      

لطالما رفضت فكرة المقارنة بين المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطيني وبين المشروع الوطني لتحريرها، فليس من العدل ولا من الإنصاف مقارنة مشروع احتلال بمشروع تحرير ووضعهما في الخانة ذاتها

وعليه فقد كثفت بريطانيا مجهوداتها العسكرية من خلال التوجه مباشرة إلى احتلال العاصمة العثمانية -اسطنبول-حيث كانت تمثل الضلع الأضعف في تحالف دول المحور، وبالرغم من أنها فشلت؛ حيث استمات العثمانيون بالدفاع عن عاصمتهم، فقد عكست هذه الحملة توجهاً جديداً لدى بريطانيا يقضي بأنّ سياستها التقليدية في المحافظة على وحدة الأراضي التركية لتكون سداً في وجهة الإمبراطورية الروسية قد تم استبدالها بسياسة السيطرة وفرض الوصاية المباشرة عليها.

 
في ذات الوقت فتحت لندن عدة جبهات على صعيد الدبلوماسية تمثلت بالتوصل إلى ثلاث اتفاقيات متعاقبة، كان لها الأثر الكبير في رسم المشهد السياسي لفترة ما بعد الحرب. فكانت أولا رسائل الحسين مكماهون التي استطاعت تحفيز مجموعة من العرب للانتفاض على الدولة العثمانية من الداخل لإضعافها ومن ثم السيطرة عليها، وذلك من خلال تقديم الوعود بإنشاء دولة عربية مستقلة. وعندما كانت بريطانيا تخشى أن تتحول هذه الدولة العربية الموحدة -إذا ما وجدت- إلى خصم للمصالح البريطانية، فقد حرصت على إحداث ترتيبات تجعل من وحدة الأراضي العربية واقعاً لا يمكن تحقيقه، وذلك من خلال تشجيع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، ومن ثَمّ الاعتراف بهم كجماعة سياسية تمهيداً لمنحهم دولة مستقلة من خلال وعد بلفور. إذن جاء وعد بلفور بسياق سياسي بحت، مع عدم التقليل -بطبيعة الحال- من السياقات اللاهوتية حيث كانت هناك ميول دينية واضحة لبعض أبرز القادة البريطانيين لليهود نظراً لعقيدتهم المسيحية الإنجيليكية من أمثال رئيس الوزراء حينها لويد جورج، ووزير خارجيته آثر بلفور.

       
وأخيراً كانت اتفاقية "سايكس بيكو" التي استطاعت بريطانيا من خلالها المحافظة على تحالفها مع فرنسا زمن الحرب، وتجنب فتح مواجهة مباشرة معها بعيد الحرب، وذلك من خلال تحديد مناطق النفوذ بشكل يضمن مصالحهما معاً. وفي الوقت الذي خدمت فيه الحركة الصهيونية بريطانيا من خلال منع تشكيل أي دولة عربية موحدة، فقد استطاعت خدمتها أيضاً من خلال دفع فرنسا بعيداً عن قناة السويس حيث لعبت الأراضي الفلسطينية دور المنطقة العازلة بين مناطق النفوذ الفرنسي في سورية وبين مناطق النفوذ البريطاني في مصر وسيناء. بكلمة أخرى، لعبت الحركة الصهيونية دوراً وظيفياً مزدوجاً في خدمة المصالح العليا لبريطانيا.

      

لا بدَّ من البحث عن مصالحنا نحن الفلسطينيين عند الدول الكبرى الصاعدة، مستخدمين اللغة التي يفهمونها -أي لغة المصالح- ومتحلّين بعدالة قضيتنا وحقنا الذي لا يسقط بالتقادم
لا بدَّ من البحث عن مصالحنا نحن الفلسطينيين عند الدول الكبرى الصاعدة، مستخدمين اللغة التي يفهمونها -أي لغة المصالح- ومتحلّين بعدالة قضيتنا وحقنا الذي لا يسقط بالتقادم
 

من جانبهم فقد استثمر الصهاينة جيداً في قدراتهم الذاتية وتسخير نفوذهم لخدمة مشروعهم السياسي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. فبالإضافة إلى العلاقات القوية التي ربطت بعض أبرز قادة الحركة الصهيونية -مثل حاييم وايزمن- بالساسة البريطانيين المتنفذين، وبالإضافة إلى نفوذ المال السياسي وجماعات الضغط اليهودية (خصوصاً في الولايات المتحدة) فقد استطاع الصهاينة توظيف عامل آخر تمثّل باستغلال اللحظة التاريخية التي كان فيها النظام الدولي يشهد تحولاً جذرياً تمثّل بانهيار الامبراطوريات القديمة وعلى رأسهم الإمبراطورية العثمانية التي كان يبدو لكل مراقب أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتشكل نظام دولي جديد. هذا من جانب، أما الجانب الآخر فقد تمثل بقدرة الصهاينة على فهم العقلية الأوروبية والعزف على الوتر الذي تحب سماعه والذي تمثل بفكرة "تحديث الأرض وتطوير الشعوب المتخلفة" أي بمعنى آخر الاستعمار.

      
فقد كان المشروع الصهيوني ومازال من حيث الجوهر مشروعاً استعمارياً من النوع الإحلالي على الطريقة الأوروبية، ويمكن القول باطمئنان إلى أن المشروع الصهيوني هو آخر مشاريع الاستعمار الأوروبي في القرن العشرين. ولا شك أن هذه الفكرة -أي فكرة الاستعمار- كانت لتروق للنخبة البريطانية، فهي كانت لتتناسب مع العقلية الاستعمارية البريطانية من جهة، ومن جهة أخرى كانت لتعمل على حل المشكلة اليهودية في أوروبا والتي بدأت دلائلها الأولى تدعو للقلق.

          
أخيراً أود القول إنني لطالما رفضت فكرة المقارنة بين المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطيني وبين المشروع الوطني لتحريرها، فليس من العدل ولا من الإنصاف مقارنة مشروع احتلال بمشروع تحرير ووضعهما في الخانة ذاتها. ولكن يجب على مشروع التحرير ألا يقل قوة، وحنكة، وذكاء عن مشروع الاحتلال. ومن هنا كان على أصحاب المشروع الوطني الفلسطيني للتحرير أن يعيدوا تقييم تجربتهم في ضوء المتغيرات الجوهرية الحاصلة في المجتمع الدولي وفي البيئتين المحلية والإقليمية.

          

ولا بدَّ أن تتوفر لديهم قراءة عميقة وواعية للبيئة السياسية التي تحيط بمشروعهم، والبحث عن نقاط القوة والنفوذ الذاتية وتعزيزها. وبالرغم من أنني أحذّر من أن تتحول حركات التحرير الوطني إلى مشاريع وظيفية في يد الدول الكبرى، إلا أنني أشدد على حقيقة إنّ السياسة مصالح ولا بدَّ من البحث عن مصالحنا نحن الفلسطينيين عند الدول الكبرى الصاعدة، مستخدمين اللغة التي يفهمونها -أي لغة المصالح- ومتحلّين بعدالة قضيتنا وحقنا الذي لا يسقط بالتقادم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.