شعار قسم مدونات

الفلسفة كمؤكد للدين.. مدخلكَ لعلم الفلسفة

مدونات - فلسفة فلاسفة فيلسوف

لن ينفكَّ الإنسان متفلسفاً هكذا قيل، إذ الفلسفةُ حرفياً -كما قيل- تعني "حب الحكمة"، فهي إذن مصطلحٌ ذو مدلولٍ ينطوي على معنى الحكمة وكيفية التوصّل لها واكتسابها، ويزعمُ بعضهم مؤخراً أنها "البحث عن الحقيقة"، وهو اعترافٌ ضمنيٌ بوجود حقيقةٍ ما، فكان مثارُ التساؤل إذن حول طرق الوصول إليها، وهذا ما أدى إلى تكثيف البحث والكلام حول ما سُمّي "نظرية المعرفة"، لكن التساؤل انبعثَ قديماً حتى ثار مرةً أخرى لكن عن معنى "الحقيقة" أصلاً، وهذا أحال التساؤل الفلسفي برمته إلى "البحث عن المعنى في الأشياء"، بحيث يُترك البحث في الأشياء نفسها إلى العلم، والذي بدا وكأنه يزاحم الفلسفة، ويقضمُ من أراضيها الشواسع التي قد يتيه فيها الكونُ بأسره لو كان ماشياً على قدمين!

 
يبدو من كلِ ذلك أن العقل البشري مفطورٌ على الإقرار بحقيقةٍ ما، فحتى من ينفون أيَ حقيقة، هم في الواقع يستبدلون حقيقةً بسواها، فينزلونها عن منصتهم الاعتقادية ليضعوا مكانها أخرى، ليتركوا لها مهمة شرح الوجود وتحديد موقعهم فيه، وهذه المنصة جزء من تكويننا كبشر، فلا يخلو آدميٌ من إيمان بشيءٍ ما، كما لم يحدث أن كانت أمةٌ بلا دين، والدينُ هو إطار تفسيري للكون والوجود، أي فلسفة بمعنى ما، وهذا -ربما- ما يفسر السبب الذي يجعلُ الإنسان مسكوناً دائماً بـ"قلق التساؤل"، أي "ربما" الحيرة ربما.

 

ومن هذه الحيرة والقلق انبثقت الفلسفة مذ كان للإنسان عقلٌ يحتار ويفكّر ويقلق، فالتاريخُ المدون للتفلسف إنما هو تاريخٌ لما عرفه مؤرخو الفلسفة وبلغهم من آثار الأمم البائدة، ولكن عدمُ العلم ليس علماً بالعدم، بالضبط كما قاله بعض مؤرخي الأدب من أن أقدم فنون الشعر هي "الملاحم"، بحسب ما بلغهم من وثائق تاريخية، لكن النظر العقلي يقتضي أنه "الشعر الغنائي"، إذ الملاحمُ هي شكل متطور من الشعر الغنائي الساذج، والمعقّد يأتي تالياً بعد البسيط، هذه طبائع الأشياء بمقتضى القانون الذي وضعه الخالق -جلَّ جلاله-، ومن كل ذلك نفهم أن التاريخ في العموم، لا يحكي الماضي بالضرورة، بل هو ما نعرفه فقط من ذاك الماضي فحسب، وأريد من هذا أن تاريخ التفلسف هو التاريخ العقلي للإنسان، فما كان الإنسان قط إلا متفلسفاً.

 
قد كُتبَ في التفلسف الكثير والكثير، فهو في أول نشوئه أم العلوم من قبل، بل إن العلوم لم تنبت إلا في حدائق الفلسفة أولاً، وكانت أبحاثها -أي الفلسفة- في فجرها الأول في الطبيعيات، ثم تطورت مجالاتها وانشعبتْ حتى انتقل التفلسف إلى أن صار "تفكيراً في التفكير"، وهذا الانتقال يعودُ بالأساس -كما سبقت الإشارة- إلى أن تلك المجالات استقلّت بها العلوم، ولا يزال الجدل مستعراً بين العلماء والفلاسفة حول علاقة العلم بالفلسفة، ومن الطريف أن بعض الفلاسفة -وهم النفعيون- حينما امتعضَ من الإفراط النظري في الفلسفة، فقرّر أن ينزلَ بها إلى الشارع وميدان الحياة لتكون عمليةً أكثر، ليخلّصها من سجنها العاجي، لكنه لم يستطع ذلك إلا بـ"التنظير" للعمل كمعيار للحقيقة، فوقعَ فيما هرب منه، لأن الفلسفة هي بناء نظري في النهاية، ولا يمكن أن ينقد التفلسف إلا بالتفلسف، فإذا اعتمدت التحقق التجريبي تحولت إلى "علم" لا فلسفة.

 

undefined

 
إن الفلسفة بوصفها حقلاً معرفياً ينطبقُ عليها من ما ينطبقُ على غيرها من ضرورة مراعاة المنهج القرائي بالتدرج فيها، فالقفزُ سيؤدي إلى شيئين رديئين:

  إما انهيار الوعي أمام ما بدا -لأول وهلة- باهراً، وسببُ هذا الانبهار هو تعطّل الإمكانات النقدية بحكم بدائية القارئ حينذاك وسذاجته أمام المقروء، فما تراه اليوم عميقاً ربما اتضح لك بعد حين أنه لم يكن بالعمق الذي تظن، مما يعني أن ثمّت مراحل على الطريق ما كان لك أن تقفز عليها. أو أنه لن يفهم العلم الذي يقرأ فيها، لأنه بدأ بالصعب، كمن شرع بتعلم القسمة مع أنه لم يعرف من الجمع شيئاً، وهذا ما سيجعله يستحسر، وييأس، ويكره ذلك العلم، وهذا طبيعي فعندما يستغلقُ علينا شيءٌ فنحنُ نتركه وننصرفُ عنه.

وكلاهما ستؤدي إلى نفس نتيجة هي الجهل بذلك العلم، لكن الفرق هو أن الأول لا يدري أنه جاهل، أما الثاني فيدري ذلك.
 

أقول: في الحق لقد احترت عندما أخذتُ أفكر وأستعرض أفضل الكتب التي يصح أن تكون مداخل مأمونة وجيدة للولوج إلى هذا الحقل المعرفي، ومشكلة الفلسفة أحياناً أنها تطلق التساؤل المزعزع، لأنها تتخذ من الحيرة منطلقاً، لكن الواقع أنها -في نظري- قد تجيد في شرح وتحليل مباعث الحيرة في حين أننا نظن أنها تزيلها، أي أنها ربما ستجذرها أكثر، وهذا ما جعل بعض علماء المسلمين -كالغزالي وغيره- يحرّم الاطلاع عليها، لأنهم رأوها مثيرةً للشكوك فحسب، في حين فصّل آخرون كابن رشد وغيره، وما أفهمه من تفصيلهم أنهم يؤكدون على ضرورة الاستمساك بالثوابت العقائدية، عبر تأصيلها عقلاً وشرعاً لتكون قارّةً مستقرة في الوجدان والوعي قبل الإبحار في الفلسفة المائجة بطبيعتها.

 

ومن هنا فالذي أنصحُ به -وصدقوني عن تجربة- أن تكون المداخل الأولى للفلسفة ذات نَفَسٍ إسلامي، وبعد أن يعتاد تلك الأبحاث فله أن يطلع على ما شاء منها.. هذه نصيحة منهجية لا تحفّظ ديني أرعن، والذي أظنه أن الذكي لن تغره السفسطات، وسيقدر على كشف تناقضاتها، عبر آليات نقدية كثيرة، منها مثلاً: الفصل بين الفكرة والحجة، أي المدعَى والدليل، فلا يخلط بينهما، ليتضح لديه أن كثيراً مما يبدو تحليلات أو حقائقا.. هي مجرد ادعاءات مركّبة بحذق، ومصاغة بحيلة واسعة، تجعل القارئ غير اليقظ يتشّرب التنظيرات وينسى سؤال الحجّة والمستند. أما العجول، أو مدخول النية، أو تالف الضمير فلن تزيده القراءةُ فيها إلا ضياعاً وحيرة وتخبطاً. ومما استوقفني من مظاهر هذه الضياع أن البعض أراد -كما يدعي- أن يشيع التسامح بين الناس بإطلاق نسبية المعايير، ففقد معنى الوجود بإسقاط القيم التي ينهضُ عليها هذا الوجود نفسه، كمن أطلقَ السباع لتأكل الثعالب ثم تعود عليه فتأكله هو!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.