شعار قسم مدونات

تريزا ماي.. الشعب السوداني أيضاً يريد اعتذاراً

Britain's Prime Minister Theresa May leaves 10 Downing Street in London, November 1, 2017. REUTERS/Toby Melville
ما يميز النخبة السياسية في كل العالم هو أنها تمتلك ما يؤهلها من تفوق وإمكانات تمنحها الاستحقاق لقيادة الشعوب إلا في منطقتنا إذ إن نخبنا هي ربيبة للاستعمار بطريقة أو بأخرى، كما الحال في السودان، فبدءاً من الترابي ذلك الرجل الذي تسبب بقصد أو بدون قصد في كثير من الكوارث التي سندفع ثمنها لأجيال أخرى قادمة.

ربما كان يحمل فكرة نبيلة

، لكنه في سبيلها ارتكب كل محظور، قد يبدو كلامي عن الترابي صادماً لغير السودانيين، ممن عرفوه من خلال أفكاره وكتبه، لكن في النهاية ليست الأفكار ولا الكتب هي من تحدد الإنسان، إنما الأفعال هي التي تحدد من يكون، هي دائماً إشكالية النظرية والتطبيق التي تقف حجر عثرة في وجه أغلب المنظرين، فالرجل الذي يصلح للتنظير ليس بالضرورة أن يكون هو الأصلح لتطبيق ما نظّر له، هذا طبعاً إذا افترضنا منذ البداية حسن النية وسلامة التنظير.

مشكلة الشعوب أنها حتى عندما تعايش التجربة بذاتها وترتكب الأخطاء بنفسها، وتتعلم الدرس بالطريقة الصعبة، إلا أن تلك الدروس لا تستقر كثيراً في الوعي الجمعي للناس، ولا تمرر هذه المعرفة عبر الأجيال، لذا بمجرد أن ينقرض الجيل الذي عايش المرحلة يأتي سلفه ليكرر ذات الأخطاء وينخدع بذات الكلمات والخطب الرنانة. لذلك لا أستغرب كثيراً إن كنا لا نزال نكرر أخطاء الآباء والأجداد، ونسأل ذات الأسئلة التي سألوها قبل عشرات السنين ونسلك ذات الطرق الوعرة التي لا تقود إلى أي مكان سوى المزيد من الفرقة والشتات.

المجتمع السوداني هش للغاية والسلاح منتشر في كل مكان والوعي ليس في أحسن حالاته، كما لا وجود لقيادة محل ثقة ولا أحد لا دولياً ولا إقليمياً يرغب في تحسن الوضع

لذا لا يمكن أن نعوّل كثيراً على الشعوب، وهنا بالذات يأتي دور القائد دور النخبة التي يفترض بها أن تحكم وتوجه، وأن تتعلم من الأخطاء. لكن كان قدر الله أن ابتلانا منذ الاستقلال وإلى اليوم بـ هؤلاء الذين لا أسميهم حكومات ومعارضات، لكن أفترض أنكم تعرفونهم جيداً، مركبات من الجهل وحب السلطة، فجعلوا من الوطن سلة مهملات تسير بثبات وثقة نحو هاوية سحيقة. أعوام تلت بعد ذلك، ثورات تساقطت على إثرها العروش كأحجار الدومينو، واحداً تلو الآخر.

كنا في السودان ننظر إليها من ثقب الباب الضيق، بعين من الفرح وأخرى من الترقب، ارتفعت الآمال حينها إلى حد لم يسبق له مثيل. لكن سرعان ما هبت الرياح بغير ما تشتهى الأنفس، فهذه الثورات كانت كالحجر الذي أُلقى به في مياه راكدة.. حرَّك المياه؟! نعم، ولكنه أيضاً أخرج كل الأوساخ التي كانت في القاع ودفع بها إلى السطح.

بعدها بات واضحاً أن جميع معاناتنا وإن كانت تسببت بها السياسة إلا أنها لم تعد سياسية فحسب. فهذا الجسد الذي حسبناه واحدا لم يعد كذلك. فمن المضحك حقاً أن ننام وننام ونتصور بعدها بكل سذاجة أننا بقليل من الغضب – وإن أسقط ذلك بعض العروش المهترئة أصلاً – أن ذلك كافٍ ليكفِّر عنا ذنوب أزمان طويلة من السبات العميق الذي كنا نعيشه، فمشكلة الشعوب عموماً هي هذه النظرة الطفولية للأشياء والنَفس القصير فهي لا تستطيع في أغلب الأحيان أن تكمل ما بدأته، والثورة كما تعلمون كالعجلة كما وصفها أينشتاين إذا توقفت سقطت.

ثم إنني دائماً ما كنت أنظر إلى هذه الحركة باعتبارها مجرد ثورات فيزيائية بسيطة، فعل ورد فعل هكذا ببساطة لا أكثر ولا أقل، لذا فقد كانت متوقعة الحدوث كما توقعتها بسهولة كوندليزا رايز وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، ومتوقعة النتائج أيضاً شأنها شأن كرة ترتطم بحائط ومن ثم ترتد منه في الاتجاه المعاكس. غاب العنصر الإنساني الواعي الذي يضع لها الأهداف ويوجهها حيث ينبغي لها أن تسير. أما هنا في السودان فالوضع كان هادئاً على نحو مريب، احتارت النخبة وتخبطت كثيراً في تفسيره، فما بين الحكومة التي ترى أن الشعب راض عنها، وبين المعارضين الذين وقفوا بين الصمت ووصم الشعب بالجبن والخوف!

الجيش السوداني لم يعد هو الجيش، أو بالأحرى لم يعد ثمة جيش بذات السطوة القديمة، السطوة اليوم هي للأجهزة الأمنية. وأما من بقي من جنرالات الجيش فقد تغيرت نظرتهم للأمور كثيراً
الجيش السوداني لم يعد هو الجيش، أو بالأحرى لم يعد ثمة جيش بذات السطوة القديمة، السطوة اليوم هي للأجهزة الأمنية. وأما من بقي من جنرالات الجيش فقد تغيرت نظرتهم للأمور كثيراً
 

في حين أن الصواب هو أن الشعب وإن كانت تتوافر لديه كل الظروف الموضوعية التي قد تدفع أي شعب آخر للثورة إلا أن المعاناة اليومية للحصول على لقمة العيش وحالة الفقر المدقع والكفاف التي يعيشها الوطن اليوم تحفز على الجمود لا على التمرد كما يقول إيرك هوفر. بالإضافة إلى ذلك نحن في السودان لا نمتلك أي نخب حقيقية يثق فيها الشعب ويُعوًّل عليها في أن تقود الناس وتوجههم، الواقع أن نخبنا السياسية والثقافية وحتى الأدبية هي ليست نخباً أصيلة صنعت نفسها بنفسها، إنما أنتجتها مجموعة من العلاقات والارتباطات الاستعمارية والقبيلة.

بحيث أن هذه الشخصيات التي تعتلي سطح السياسة والفن والأدب لو كان قدّر لها أن تُزرع في غير تربتها الحالية، لما نبتت أصلاً، لأنها لا تملك بذرة التفوق التي تمتلكها النخب الحقيقية. ففشل قيام الثورة في المحصلة هو فشل للنخب بامتياز. فبعد أكثر من ستين عاماً على الاستقلال لم تعرف بعد هذه القيادات اللغة المناسبة التي يُصغي لها شعبها، ولم تدرك أن الذي يدفع الناس للثورات ليس كم الألم والمعاناة الذي تعيشه، بل هو الأمل في المستقبل الأفضل، وهو ما فشلت نخبنا في منحه للناس ولو على المستوى النظري. على أي حال فإن وضع السودان صار متأخراً للغاية ولن يجدي حتى العلاج الثوري في شفائه، الصورة جد قاتمة وبحاجة إلى عبقري ليخرجنا من ذلك.

فالمجتمع هش للغاية والسلاح منتشر في كل مكان والوعي ليس في أحسن حالاته، كما لا وجود لقيادة محل ثقة ولا أحد لا دولياً ولا إقليمياً يرغب في تحسن الوضع. لذا فأي ثورة في هذه الظروف الحالية ستُسرٍّع فقط من التقسيم الذي أخشى أنه بات يلوح مجدداً في الأفق، في ظروف سابقة حالكة كهذه كان الشعب ينتظر من الفارس بالزي الأخضر الذي يمتطي الدبابة أن يمد له يد العون وينقذه ولو بانقلاب!

يهاجر السوداني من بيته إلى آخر الخريطة ليضرب في الأرض باحثاً عما يعيل به عياله، في حين أن بإمكانه ببساطة الحصول على أضعاف ذلك بقفزة في بيت جاره الغني

يدرك الشعب المسكين حين يفعل ذلك أنه كمن يستجير من الشيطان بأحد أعوانه، ولسان حاله يقول بالتأكيد الانقلاب لن يكون خلافة راشدة، لكنه مهما كان سيكون أخف وطأة مما نحن فيه! اليوم ويا للسخرية صارت حتى الانقلابات بكل ما تجلبه من قتل ودمار ترفاً بعيد المنال، فالجيش لم يعد هو الجيش، أو بالأحرى لم يعد ثمة جيش بذات السطوة القديمة، السطوة اليوم هي للأجهزة الأمنية. وأما من بقي من جنرالات الجيش فقد تغيرت نظرتهم للأمور كثيراً وتغيرت معها طموحاتهم، فصارت أكثر برجوازية وأقل ثورية.

إن أهم مشاكل المنطقة والسودان بالذات والتي أقعدته وأحالته لما هو عليه الآن من حرب، وفقر، وانقسام هو أن معظم نخبه هى نخب موروثة أو في أحسن الأحوال مفروضة عليه فرضاً من قبل نخب أخرى استعمارية وإقليمية. أي أنها في مجمل الأحوال لا تمتلك لا المؤهلات الذاتية ولا الاستحقاق لقيادة المجتمع لأنها ببساطة لم تصنع نفسها بنفسها وإنما هي مصنوعة ومصطنعة.

السيدة تريزا ماي.. إن ثاني أكثر شعوب العالم نزاهة حسب الأمم المتحدة هو اليوم بفضلكم وبفضل نخبكم المفروضة علينا هو اليوم أكثرها تعاسةَ، فشعبنا المسكين تكالب عليه فقره وجهله مع نخبه الفاشلة فصار برغم غناه المفترض الأفقر في العالم، وبرغم نزاهته فإن دولته في مقدمة قوائم الفساد العالمي.
"كما تكونوا يولى عليكم" مقولة قد تكون صحيحة في الغالب الأعم لكنها لم تنطبق يوماً على السودان، فالنخب لم تنتم يوماً إلى الشعب وليست نتاجاً طبيعياً منه، إنما هي ربيبة الاستعمار البريطاني ومن بعده التقاطعات الإقليمية والرأسمالية.

فعلى عكس نخبه تماماً، فإن الشعب السوداني في منتهى الطيبة والبساطة والسذاجة أحياناً. نزيه إلى أبعد الحدود، فلا يمكن لأي شعب في العالم أن يتحمل الفقر المدقع والجوع المهلك دون أن يدفعه ذلك إلى إخراج أسوأ ما فيه. فعندما تجد من يهاجر من بيته إلى آخر الخريطة ليضرب في الأرض باحثاً فقط عن الكفاف الذي يعيل به عياله، في حين أن بإمكانه ببساطة الحصول على أضعاف ذلك بقفزة صغيرة في بيت جاره الغني، إن ذلك لأمر يستحق الاحترام حقاً. ألا يستحق هذا الشعب اعتذاراً يا تريزا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.