شعار قسم مدونات

إن لم يعتذر الفلسطينيون لأنفسهم

Blogs- فلسطين
67 كلمة خُطت في رسالة واحدة كانت كافية لتهجير ٨٠٠ ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، واستشهاد ١٥ ألفًا منهم في ٧٠ مجزرة دموية اقترفتها العصابات الصهيونية، كانوا هم القربان الأوّل في النكبة، سبب الوجع الأوّل الذي تلته قرابين كثيرة لم تَعدّ تُعدّ أو تُحصى لهولها.
مضى 100 عام على وعد بلفور الدمويّ، المنصوص بحنكة، المحفور في أذهان طلاب المدارس الإسرائيليّة كالنشيد الوطنيّ الإسرائيليّ، صحيح أنّهم لا يتلونه كلّ صباح في الصفوف المدرسيّة كالنشيد، ولكنّهم يحفظون نصّ الرسالة عن ظهرِ قلب على أنّها إنجازٌ قوميّ للشعب اليهوديّ، فمن الاستحالة أن يتخرّج الطالب اليهوديّ من المدرسة قبل أن يتعامل معه كأيقونة تاريخ الشعب اليهوديّ الحديث ويجيب عنه في امتحاناته المدرسيّة الحاسمة. وللأسف، على الطلبة الفلسطينيين في إسرائيل حفظُ ذاتِ المادّة والتقدم بامتحانات مصيريّة فيها مضطرّين للتعامل معها، مع فارق كبير أنّ المعلم الفلسطينيّ يتعامل معه بكونه "وعد من لا يملك لمن لا يستحق".
مع مرور مئة عام تحديدًا على التاريخ الذي كتب فيه وزير الخارجيّة البريطانيّ، آرثر جيمس بلفور، رسالة يؤيد فيها إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، علينا كفلسطينيين أن نحرِّك السؤال الحاضر من الماضي: كيف استطاع اليهود أن يحوِّلوا شتاتهم في الأرض المستمر منذ مئات، بل آلاف السنوات، إلى حقيقة عودتهم؟ كيف تمكّنوا إبان الحرب العالميّة الثانيّة، وما قبل، بالمطالبة بأرضٍ يدّعون أنّ الله وهبها إلى إبراهيم وسلالته، واستطاعوا تحصيلها دون الاستناد على دليل فعليّ وإقناع العالم بهذا؟ وكيف تكوّنت هذه الدولة من شعب لا يجمعه أي شيء سوى الدين؟  وكيف نظّموا هذه الدولة وأُسسها ومؤسساتها ولُغتها المستحدثة من لغاتٍ أخرى لتصبح بهذه القوّة؟ فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي قامت حديثًا دون تكوّن طبيعيّ وتاريخيّ لها منذ سنوات طويلة سابقة.
محمود عباس، الذي هُجّرَ من صفد في النكبة حين كان طفلًا، ردّته تيريزا ماي خائبًا ومضتْ محتفلةً بوليمتها مع نتنياهو، وكأنّهما شربا دماء الشعب الفلسطينيّ المسفوك دون رحمة
محمود عباس، الذي هُجّرَ من صفد في النكبة حين كان طفلًا، ردّته تيريزا ماي خائبًا ومضتْ محتفلةً بوليمتها مع نتنياهو، وكأنّهما شربا دماء الشعب الفلسطينيّ المسفوك دون رحمة

أسئلة كثيرة إجاباتها النمطيّة موجودة في الكتب التاريخيّة مع اختلاف المؤرخين ووجهات نظرهم، ولكن هذه الأسئلة تُحيلني بالضرورة إلى تعامل القادة الفلسطينيين مع قضيتهم من خلال ردّ فعلهم الرسميّ، فردّ الفعل الرسميّ هو ما يشكل الحاضر السياسيّ الحاسم في فلسطين وموقفها الدوليّ، فبينما تحتفلُ رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مع  رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمناسبة وعد بلفور، اجتمعا على مأدبة طعام في العاصمة لندن، معهما 150 ضيفًا، غير مكترثين بمطالب الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس بالاعتذار عن وعد بلفور بالقول: "إن بريطانيا تشعرُ بالفخر من الدور الذي لعبته في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر".

وبالطبع، محمود عباس، الذي هُجّرَ من صفد في النكبة حين كان طفلًا، ردّته تيريزا ماي خائبًا ومضتْ محتفلةً بوليمتها مع نتنياهو، وكأنّهما شربا دماء الشعب الفلسطينيّ المسفوك دون رحمة. هذا الفخر الذي حملتهُ ماي في نظرتها لوعد بلفور صبّ جام الغضب في نفس كلّ فلسطينيّ عرفَ المأساة عن كثب في حروفه، فوعد بلفور ليسَ ورقةً فحسب بالنسبة للفلسطينيين كما هو الحال لبريطانيا، بل سبب رئيس في شتات العائلات الفلسطينيّة، وأرواح الشهداء التي سلّمت نفسها للسماء قسرًا، والمنازل المهجورة في لفتا وحيفا وكل المدن والقرى.. تعني أنّ برتقال يافا بدّل قشوره بأخرى رغمًا عنه.
ولكن هل حقًا كنا ننتظرُ اعتذارًا لنسعد أو نرتاح؟ اعتذارًا لم يكن ليغيّر أي واقع بآخر سوى بضع كلمات منمقة في رسالة ستستغبي عقل شعبٍ كامل؟ لذا فعدم الاعتذار أفضل من أن يكون اعتذارًا شكليًا غبيًا لا فائدة منه، لأنّ بريطانيا لم تشأ أن تلعب دورًا دبلوماسيّا هذه المرة وتناولنا كطفلٍ صغير قطعة حلوى لنكفّ عن البكاء، وهذا جيّد! والسؤال الأهمّ الذي يجب مراجعته: لماذا تنتظرُ القيادة الفلسطينيّة من بريطانيا أن تعترفَ بحقنّا وكأنّ الحق في جعبتها ونحن نتوسّله أو بالأدق "نتسوّله" منها؟ لماذا نتسوّل حقّنا بالوجود الذي مارسناه فعليًا وكليًا قبل 69 عامًا فقط، بينما استطاع اليهود تحصيل حقّهم بأرضٍ ليست لهم بادّعاءٍ إلهيّ، من دولةٍ لا تملك الشرعيّة، وكيف ذلك؟
من الأفضل لنا كشعبٍ فلسطينيّ مراجعة ذاتنا، قيادتنا، والأهمّ الاعتذار لماضينا الخانع والمتواطئ ضد نيل حقوقنا بدلًا من مطالبة بريطانيا بالاعتذار لنا
من الأفضل لنا كشعبٍ فلسطينيّ مراجعة ذاتنا، قيادتنا، والأهمّ الاعتذار لماضينا الخانع والمتواطئ ضد نيل حقوقنا بدلًا من مطالبة بريطانيا بالاعتذار لنا

في هذه الأسئلة تنضوي الأسئلة الأهم: ما الفرق بين الممارسة الفعليّة على الصعيد الدوليّ للسياسيين الفلسطينيين مقارنةً بنظرائهم الإسرائيليين؟ وما الفرق بين الخطاب الرسميّ الفلسطينيّ وذاك الإسرائيليّ؟ فبسبب هذه الممارسة والخطاب تم إنتاج واقع فلسطينيّ مأساويّ رغم حقّه ولم تجلب له، رغم كثرتها، إلا مزيدًا من الاستيطان والخنوع والتنازل، وهي ممارسة وخطاب انتجت واقعا إسرائيليّا مزهرا رغم بهتانِ حقّه التاريخيّ في ذات الأرض.

وهنا على الشعبِ الفلسطينيّ أن يُراجع أداءه عالميًا، لا بل عليهِ أن يُراجع قيادته التي تمثله إن كان حقًا يريد أن ينعم بالحرّية، في أقوالهم وتصريحاتهم التي تجرّأت يومًا بالتنازل عن حقِّ العودة علنًا حين قال الرئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس خلال مقابلة تلفزيونيّة مع القناة الإسرائيليّة الثانية: "أنا أريد أن أرى صفد ولكن لا أريد العودة لأعيش بها".
إن كان الرئيس الفلسطينيّ المُهجّر من صفد قبل 69 عامًا فقط لا يطمحُ إلا لرؤية صفد لا للعودة إليها، معلنًا بذلك تنازله عن حق العودة والاستهانة بحقِّ ملايين من أبناء شعبه في الشتات، فهذه كارثة أن يكون سقف مطالبنا كفلسطينيين بهذا الخفوت، في الوقت الذي تصرُّ فيه إسرائيل لغاية يومنا هذا أن حقّها وحدود دولتها ممتدّة من نهرِ النيلِ إلى الفرات استنادًا لفترات تاريخيّة غير محددة سوى بآلاف السنوات، دون حق، لتسعى إلى تحقيق ما تريد بكل عزيمة وحنكة دوليّة.
لهذا من الأفضل لنا كشعبٍ فلسطينيّ مراجعة ذاتنا، قيادتنا، ممارساتنا الداخليّة والدوليّة جيدًا، والأهمّ الاعتذار لماضينا الخانع والمتواطئ ضد نيل حقوقنا بدلًا من مطالبة بريطانيا بالاعتذار لنا، وإن لم يكن هذا، فعارٌ علينا امتلاك هذا الوطن لأننا لا نستحقه. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.