شعار قسم مدونات

"دُميان" الرواية التي تبحث في النفس البشرية

رواية دميان

تطرح قضية النفس البشرية عدة إشكالات تكاد لا تنتهي، لأن دراسة الإنسان عموما والنفس خصوصا ليست بالهينة، لأن ذلك يتعلق بكائن مَهما حاول العلماء والفلاسفة دراسته وتفسيره، إلا أنه يبقى غامضا، وما جعل ذلك كذلك هو أنه يصعب التوصل إلى نتائج دقيقة فيما يتعلق بدراسة النفس البشرية.

ينطلق بعض الكتاب في أعمالهم الروائية من هذه الإشكالية التي تطرحها النفس البشرية، محاولين بذلك إماطة اللثام عن بعض الخبايا التي تجعل من دراسة النفس أمرا معقدا. وفي هذا القراءة التي قمتُ بها، انطلقت من إحدى الروايات التي يبدو أنها تندرج ضمن المجال النفسي، انطلقت منها لعلني أجد فيها ما يوضح بعض الغموض الذي لا يزال مرتبطا بالنفس البشرية، واخترت رواية دميان، والتي كتبها هيرمان هيسِه بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أن اطلع على أعمال سيغموند فرويد.

تٙمكّن "إميل سنكلير" من سبْر أغوار ذاته أكثر لمّا انتقل للدراسة بعيدًا عن العائلة، وهناك وجد الفرصة لتجريب المُمكنات، والتي أخرجته من عباءة الخوف الذي تربى عليه

وترجع تسمية الرواية باسم دميان (Demian) إلى كلمة (Daimon) والتي تعني الشيطان أو معاون الشيطان؛ وإضافة "De" الموجودة في أول كلمة دميان (Demian) يقصد بها الكاتب الازدواجية والثنائية بين الخير والشر، الوعي واللاوعي، لأن الرواية تسير بتدارك متتابع لأمور متطورة تباعاً لأحداث مستجدة. وفي هذه الرواية يتضح أن الهدف من الحياة هو المعرفة، وأن لكل إنسان رسالة وهي أن يدرك ذاته، وغير ذلك ما هو إلا هروب وتملص وخوف.

يعود هيرمان هيسه في روايته "دُميان" إلى طفولة "إميل سنكلير" المُبكرة، ليٙسرُد تفاصيل دقيقة تتعلق بتربيته وتكوينه الديني، وبتأثّره بعائلته التي دأٙبت على مُمارسة الطقوس الدينية، ولعل ذلك جعل من سنكلير محافظا وخائفا ومُطيعًا، وأصبح بذلك اِبنًا لبيئته، لكن ذلك السيناريو سيٙتغيّر بلقائه "بفرنز كرومر"، هذا الأخير دفٙع بسنكلير إلى الخروج من براءته، وأجبره على ممارسة كل ما يُخالف تربيته، من كذب وسرقة..، وقد حدث ذلك بسبب الخوف الذي ظلّ مُلازما لبطل الرواية.

 

لكن ذلك سيٙتغير مع دخول "دُميان" إلى حياة البطل، وقد أٙحدثٙ ذلك تغييرًا في حياته، باعتبار أن دُميان تمكن من إخراج البطل من ورطة فرانز كرومر، وبعد لقاءاتهما المتكررة بدأت حياة سنكلير تٙتغير من الخوف والخضوع إلى الشجاعة والجرأة، ومن هناك بدأ يحاول فهم ذاته عن طريق توجيهات دُميان، ممّا فتح الباب أمامه للمُضي قدمًا في حياته صوب مصيره.

 

وقد تٙمكّن من سبْر أغوار ذاته أكثر لمّا انتقل للدراسة بعيدًا عن العائلة، وهناك وجد الفرصة لتجريب المُمكنات، والتي أخرجته من عباءة الخوف الذي تربى عليه، ولقد أصبح شابا شقيا ومُنحرفا لا يُفارق الحانات، لكن رؤيته لامرأة جميلة في أحد الحدائق، غيّر من حياته مُجددًا، واتجه نحو العزلة والتأمل والتعبير عن الذات، وظلّتْ صورة تلك المرأة عالقة في ذهنه، وذلك دفعه إلى ممارسة الرسم، محاولا بذلك اكتشاف ذاته أكثر، ومن تم التعبير عن أحلامه من خلال لوحاته، وقد ظلت مجموعة من الأحلام لا تُفارقه، وكلها تٙتعلق بالتأثير القوي الذي تركه فيه دُميان إبن "إيفا"، هذه الأخيرة كان سنكلير متشوقا للقائها، وقد كان لها نٙصيب من أحلام سنكلير. 

أنهى هيرمان روايته
أنهى هيرمان روايته "دميان" بالتأكيد على الدور البارز الذي يلعبه الحب في حياة البشر، كيف لا والعلاقات الإنسانية تدور حوله؟!

التقى سنكلير بالموسيقِي "بستوريوس"، والذي انسجم معه بسهولة، نتيجة تٙقٙارب تفكيرهما. وفي النهاية اِلتقى سنكلير بإيفا أم دميان بعد مدة بمنزلها في مدينة أخرى، ووقع في حبها، وبقي معها مدة معينة، إلى أن اِفترقا من جديد.

يبدو واضحاً أن رواية دُميان تحاول تسليط الضوء على قضية النفس البشرية، وقد حاول هيرمان هيسِه اِستكشاف الخبايا والدوافع التي تُحدد طبيعة البشر. كما تطرق لمسألة التأثير الذي يتركه الآخرون فِينا، من خلال ما يفعلونه أو يساعدونا على فعله، وأبرَز أن الخوف بمثابة عائق يٙمنعنا من القيام بما يجب أن نقوم به، وبسببه يمكن أنْ نٙرتكب حماقات تافهة، إذ أن ذلك الأمر الذي نخاف منه يمكن أن نسقط فيه. وأوضح أهمية الأحلام في حياتنا، ذلك أنها تمنحنا الفرصة لمحاولة فهم ذواتنا، ونشاهد من خلالها لقطات مهمة من حياتنا.

أنهى هيرمان روايته بالتأكيد على الدور البارز الذي يلعبه الحب في حياة البشر، كيف لا والعلاقات الإنسانية تدور حوله، وكتب يقول: "الحب يٙجب أنْ لا يُتضرع أو يُطلب، يجب أن تكون لدى الحب من القوة ما يٙجعله واثقا بنفسه ومُكتفيا بها، وعندها لا يكتفي بأن يكون منجذبا، بل يُصبح جذابا". لعل الدرس الأهم في رواية دميان مُتعلق بمدى قدرة المرء على إدراك ذاته، والتغلب على مخاوفه، وفهم أحلامه، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى السّيطرة على الذات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.