شعار قسم مدونات

أفلا أشتاق إليه؟

blogs المسجد النبوي

كلما مرّت ذكرى المولد النبوي لا أتذكر فيها إلا موته، ربما لأن يوم مولده يوافق يوم وفاته، الثاني عشر من ربيع الأول كما روي. أستعيد تلك اللحظات التي قرأتها وسمعتها مراراً وتكراراً. أتمثلها وأتخيلها وإن كنت لست بحاجة لذلك، فكلما جاءت لحظة الوفاة وبدا لي عمر وهو يهدد ويتوعد رأيت نفسي أقف بينهم أسمع ولا أسمع، أرى ولا أرى، شعرت بأن قلبي ينقبض ويضيق صدري ويقصُر نفسي. مرّت 4 ساعات منذ أعدت البحث عن بعض الروايات والمدائح التي أردت تذكر تفاصيلها حتى أكتب هذه المدونة. مازلت أشعر وكأن في روحي خواءً، ومازل الدمع يتجمع في مقلتيّ. 

 

تذكّرت حديثاً عن أولئك الإخوان الذين ودّ لو رآهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وددت أني لقيت إخواني". قال: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أو ليس نحن إخوانك؟" قال: "أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني". قلت وأنا منهم، وأنا منهم. آمنت وأحببت وفاضت عيناي دمعاً لفراقٍ لم أشهده، ونحن كاليتامى. تمر بي لحظات أغبط فيها أولئك الذي لحقوا به، أسأل السؤال المضني: لماذا لم نكن معهم؟ هل هم أفضل منا؟ لماذا لم نرافقه؟ لماذا كان قدرنا أن ولدنا بعده بقرون؟ لم نختر نحن ذلك.. والسؤال يتبعه سؤال: وهل أنت أهل لهذه المرافقة؟ وهل كنت آمنت وصدقت وفديت؟ وهل الإيمان دون المعرفة أسهل من الإيمان معها؟ تحاصرني الأسئلة ولا تريحني الإجابات المحتملة، "ليس الخبر كالمعاينة".

 

بدأنا نقدم لابنتي شخصية النبي منذ فترة، مرة ببعض القصص التي نحكيها لها، ثم بقصص أخرى عن رسل آخرين، في الأسبوعين الماضيين بحثت عن نسخة معقولة من أفلام الأطفال المصورة لحياته. شغلتها لابنتي على التلفاز، وجلسنا لنشاهدها معاً، بكيت كما أبكي في كل مرة، ولم تفهم هي كثيراً سوى أن هناك طيبين وأشراراً، أناس كاذبون يجبرون الآخرين على عبادة الحجارة التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تجلب الخير، تسألني لماذا يفعلون هذا؟ فأجيب وفق ما أرى أنها ستفهم. في اليوم التالي استيقظت من النوم وتناولت إفطارها وجاءت إلي: ماما أريد أن أشوف قصة رسول الله. في اليوم الثالث، تكرر الأمر. شاهدتها يومياً تقريباً منذ تعرفت عليها.

 

الآن أفكر وأقول علي أن أجدها مقصوصة بطريقة أخرى حتى لا تعتقد أن هناك رواية واحدة لكل شيء، وحتى تفهم أن التفاصيل الكثيرة لا يلم بها مكان واحد، ولا رأي واحد. اليوم في يوم مولده أحضرنا بعض الحلوى، قلنا لهم هذه حلوى مولد رسول الله. قالت لي: عندما يكون هناك ناس طيبون جداً نحتفل بعيد ميلادهم، قالت: أريد أن أرى واحداً رسولاً، قلت لها لقد ماتوا جميعاً يا "هيا"، نراهم في الجنة إن شاء الله، لم يعجبها الرد، ولكن أريد أن أرى واحدًا! قلت في نفسي وأنا أريد.. وقلت لها: لا يمكن يا ماما، علينا أن نكون جيدين ونعمل الخير حتى نراهم في الجنة إن شاء الله، أليس كذلك؟ وافقتني وتابعت تناول قطعة الحلوى التي تخصها.

 

undefined

 

أجلس الآن أفكر، إن كانت طفلة صغيرة لم تعرف عنه سوى القليل القليل، ولم تعِش مع ذكره سوى أيام معدودة قد اشتاقت إليه، أفلا أشتاق إليه؟ أفلا نشتاق إليه الصادق الأمين؟ اليتيم الأرمل؟ المكلوم في أبنائه؟ الذي عاش جائعاً ومات جائعاً؟ الذي لم يسجد لصنم قط؟ ألا نشتاق إلى من حمل لنا رسالة هداية نتتبع نورها حتى يومنا هذا؟

 

مررت بفترة عصيبة منذ سنوات، كانوا يخوفونني، يقولون سوف يقول لمن أتوا من بعده وقد بدلوا وأحدثوا في رسالته: سحقاً سحقاً، سيرفضهم ويعرض عنهم، كانوا يرهبونني بهذه الكلمات، وهم يعرفون من هو، ومن نحن، وكيف نراه. يقولون نحن ونحن فقط على حجته وغيرنا إلى ضلال. كان الخوف من عدم لقائه أشد من الشوق إلى وصاله، ويا لها من أذية يلحقها بك أحدهم. وأنت تقول في نفسك، لا يمكن أن يكون هذا خلفاً له، ولا وريثاً. فتعرض عنهم وتقبل عليه.

 

هو الذي دثّرته امرأة يوم نزل عليه الوحي، يوم ولد من جديد، وهو الذي فاضت روحه في حِجر امرأة يوم وافته المنية. وهو الذي أحب امرأة فوق حب الناس أجمعين، وهو الذي ما ضرب امرأة قط، ولا أهان امرأة قط، فكيف يكون خلَفه من جعل المرأة سبب البلايا والرزايا؟ وسخط الرب وغضب الإله؟ ما علاقة هذا الحديث بذكراه؟ وكيف يمكن لفتاة ولا امرأة أن تشتعل غضباً إذا ما هي رأت من ينفرها من رسالته بسوء عمله وجهالة قوله؟ يريد أن يخرجها من دائرة المحبين الساعين إلى وصاله؟ وهي تدفعهم عن طريقها يمنة ويسرة حتى يسعها رؤية نوره بلا حجاب.

 

أعود لأقرأ.. "إن رسول الله لما توفي طاشت العقول فمنهم من خَبِل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى وكان عمر رضي الله عنه ممن خبل، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أُخرس فكان لا يستطيع أن يتكلم، وكان عليّ رضي الله عنه ممّن أُقعد فلم يستطع أن يتحرك، وأُضني عبد الله بن أنيس فمات كمدا وكان أثبتهم أبا بكر".  أقول، لعلها رحمة الله أنني لم أرافقه، فلا حياة تستقيم بعد مرافقة يتبعها فراق كهذا. أرى نفسي في بلال ابن رباح، كان كلما أذن لم يستطع تجاوز نطق اسم رسول الله، فغادر المدينة لأن الحياة فيها صارت مستحيلة.

 

undefined

 

"إن كان محمد قد مات، فإن الله حيّ لا يموت"، والله الحي الذي لا يموت كتب علينا حبّ نبيّه الفاني، وله أن يجازينا بمحبته هذه، وله أن يعوض صبرنا على فراقنا عنه، وله أن يربط على عقولنا وقلوبنا. أقول لو أنه بيننا لما تجرأ أحد على أن ينسب له ما ليس فيه، ولفرق بين الحق والباطل من جديد، لكفانا شر الشقاق والفتن، ربما كنا لنعيش حقيقة الدين.

 

تشتقاق ابنتي وقد أيقنت استحالة اللقاء فتكتفي بقصة رسول الله قبل النوم، وأشتاق أنا فأنام على وسادة أغرقتها دموع أيقنت أن اللقاء ممكن، ولكن الأمد طال وزادت معه مرارة الانتظار.

يرثيه حسّان:

وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم * وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

يبكون من تبكي السماوات يومه * ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد

وهل عدلت يوما رزية هالك * رزية يوم مات فيه محمد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.