شعار قسم مدونات

أن تكون علمانيا عربيا

blogs - city 0

العلمانية كمفهوم اقتبسناه من الغرب يُعرف بكونه فصلٌ للدين عن الدولة، لكن باعتبارنا عرب فليس من الممكن أن نأخذ مفهوما كما هو دون أن نسلك طريقا مُعوجاً لتطبيقه. ففي فكرنا العربي الحديث ثمة مفاهيم مظلومة أصابها عنت معتنقيها.

  

فإذا كان العلمانيُ الغربي يناضل من أجل إبعاد الدين عن شؤون السياسة نتاج تاريخ من الصراع بين الكنيسة وبين العلماء والمفكرين، فإن العلماني العربي اختار صراعا من لا شيء همه الشاغل هو تحريض السياسة على الدين، فلا تعرفه إن كان علمانيً أو ملحداً أو تابعا أو مقلداً، وحتى لو سألته فلن يعرف الإجابة لأنه اختار فقط أن يسلُك طريق خالف تُعرف لأنه يعرف تماما أن الشيءَ الوحيد الذي يستفزنا كعرب هو الإساءة للأديان حيث تجده يصرح دائما بأن الأديان بصفة عامة والإسلام على وجه الخصوص لا يتلاءم مع الحضارة وأنه يدعو للتخلف لأنه لم يقدم للبشرية ما يطورها متناسيا التاريخ الإسلامي الذي ساد فيه روح التسامح والتعايش بين مختلف المشارب وبشكل طبيعي وفي مجتمع واحد لكننا أصبتنا وعكة فكرية وسياسية واجتماعية نعاني من تبعاتها إلى الآن.

  
كما أن العلماني الغربي وجد حاضنة اجتماعية لأن ظلم الكنيسة أصاب المجتمع بأكمله أما العربي فجعل من نفسه عدوا لمجتمعه ولعمق انتساب العرب لدينهم، لذلك يكون محاربا من طرف العديد من مكونات المجتمع بوصفه ملحدا وليس علمانيا. كما أن العلماني الغربي رغم كرهه للكنيسة إلا أن انتمائه يبقى لدينه عكس العربي تماما الذي ينسلخ من الدين إلا قلة قليلة، فإذا كان العلماني الغربي يعرف لماذا سلك العلمانية كطريق، فالعربي لا يعلم ذلك ما يعلمه هو أن الآخرين سلكوا هذه الطريق. لنستنتج أن شاغله الوحيد هو الدين الذي اختار في الأصل إبعاده عن حياته السياسية.

 
فكيف يمكنك إذا أن تُقنع شعوباً بأكملها متوسطة الثقافة والمعرفة بفكرة ما زال روادها يتخبطون في تفسيريها ونسبة كبيرة منهم يعتقدون أنها إلحادٌ ينكر الله ويتنكر للأديان رغم أن الكثير من معتنقيها في الدول الغربية يمارسون في النهار السياسة وفي الليل يبحثون عن صكوك الغفران داخل الكنائس. لقد اختار العلمانيون العرب منذ البداية طريق الفشل بظُلمهم للمفهوم ظلما فظاً، فخلف ظلها قامت أنظمة قمعية وفي ظل شعاراتها ضعف الحراك السياسي داخل المجتمعات العربية وانتشرت التنظيمات التي تَدَعـي نصرتها للدين مستغلة مشاعر الشباب وغليان دمهم ضد هذه الفئة الغير مفهومة التي تعتبر في نظرهم كافرة، مما أدى لانصراف الناس عن السياسة وتذرعهم بالطائفة أو العشيرة لمليء فراغٍ لا تُعَبئُهُ إلا هذه الانتماءات في ظلال الأنظمة التي أخذت الشكل العلماني والتي تختلف معهم باللحي فقط.

 

العلماني العربي مجرد لقيط يبحث عن ذاته في غير محلها لأنه لا يستطيع الوصول أبدا للمثالية لأنه خرج من رحم عقيم منذ بداية ظهوره 
العلماني العربي مجرد لقيط يبحث عن ذاته في غير محلها لأنه لا يستطيع الوصول أبدا للمثالية لأنه خرج من رحم عقيم منذ بداية ظهوره 
 

أما إذا نظرنا إلى العلماني العربي من حيث المواصفات فنجد بنيته الفكرية هشة وعلمانيتهُ سطحية ممزوجة بالتخلف والتعصب للرأي ورفض الآخر والإساءة للأديان ومقدساتها لذلك فمجتمعاتنا العربية أفرادا وجماعات غير مؤهلة بعد لقبول هذا التنوع والاختلاف، أما الدين لله والوطن للجميع فيبقى مجرد شعار لا أساس له من الواقع رغم حاجة العديد من المجتمعات إلى علمانية معتدلة في إطار تعدد الانتماءات الدينية والمذهبية والقومية والعشائرية والحزبية، ولا ضمان لتوازن هذه المكونات إلا عن طريق ممارسة الدولة الحياد بين كل الطوائف وحال العراق وسوريا واليمن اليوم أكبر دليلٍ على الفوضى التي أحدثتها الطائفية والاستغلال الغير عقلاني للدين.

 
إن فصل الدين عن الدولة لا يعني بتاتا إلغائه عن المجتمع وعن إدارة الدول أو التقليل من دوره كما يدعوا العلمانيون العرب بل يجب عدم استغلاله للاختباء خلف القذارة وسوء التسيير والفساد لأنه جزءٌ لا يمكن فصله من منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية لأن القيم الإنسانية التي تحملها الأديان تشكل محوراً أساسيا للعيش المشترك بين كل فئات المجتمع إن صح توظيفُها. ففصل الدين عن المجتمع غير ممكن والإنسان بوصفه الوحدة الاجتماعية الأولى هو الذي يحدد علاقته مع ربه ودينه بكل حرية ولا يمكن لأحد كيف ما كان انتمائه أن يطلب منه التنكر لدينه وعقائده والدولة تبقى ملتزمة بحماية هذه الحقوق وذلك بوصفها أداة للضبط.

 
لنصل إلى مرحلة يمكن فيها للمؤمن أن يكون علمانياً أو على الأقل لا يرى العلمانية خصما كما يمكن للعلماني أن يكون مؤمنا إذا وُضِحَ المفهوم وزال الغموض. هذا ليس لغزا لا نستطيع حلهُ لكن اختلطت فقط المفاهيم وكَثُرَ المفسرون والغرض من هذا كله بالدرجة الأولى هو الوقوف على تناقضات الخطاب العلماني العربي المزدوج بين وليد شرعي نابع من رحم الثقافة العربية وبين تابع ومقلد لأصوله الغربية مما جعله خطابا منحرفا منذ البداية على أصوله وحتى أن البعض فسره بالخطاب المزيف لأنه يعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات.

    

وعلى كل حال تبقى هذه الإشكالات مفتوحة للراغبين في الإجابة عنها من دعاة العلمانية العربية من أجل رفع الالتباس عن خطابهم خاصة ذلك الذي يرتدي زي الأديان لكيلا يبقى العلماني العربي مجرد لقيط يبحث عن ذاته في غير محلها لأنه لا يستطيع الوصول أبدا للمثالية لأنه خرج من رحم عقيم منذ بداية ظهوره كمصطلح لأن العلمانية الغربية ترفض سلطة رجال الدين وليس الدين بأكمله.

  
إنه من الجهل الأعمى أن نفتخر ونسمو بمفهوم لم نفهمه بعد ونجعل منه نموذجا وحلما نناضل من أجله دون وعي بأصوله وتبعياته لكي لا يتحول إلى غطاء تبريري يستخدم في الكثير من الحالات للتغطية على قيم الدكتاتورية والتمييز الاجتماعي والسياسي فليس المطلوب أن نبحث في العلمانية من موطنها بل أن نبحث تطبيقها العربي ونعلم جيدا أنها جاءت ثمرة الصراع بين الثورة والكنيسة كمؤسسة سياسية دينية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة وبين العلمانية العربية التي جعلت فئة غالبا معزولة عن المجتمع منها صراعا ضد الدين واختارتها كدين جديد لفئة اجتماعية جديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.