شعار قسم مدونات

الفجوة الثقافية.. تشويش التواصل بين الإسلام والغرب

مدونات - مسلمو الغرب

على الرغم من أن الدور البارز الذي لعبته التقنية الحديثة في تقريب المساحات الجغرافية والفواصل الزمانية بين الشعوب تظل الفجوة الثقافية بين الغرب وبين الإسلام تلعب دوراً بارزاً في تشويش الخطاب بين الطرفين. وإذا كانت الثقافة تعني كل مركب يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات التي تحكم حياة المجتمعات فإن الفجوة الثقافية بين الغرب وبين العالم الإسلامي تستعصي على الردم لسببين رئيسيين وهما عاملي الدين والاستبداد السياسي.
 
يحدث تشويش في التواصل بين شخصين إما لأن محتوى الرسالة غير واضح أو أن الوسيلة التي انتقلت بها الرسالة غير مناسبة أو أن المتلقي لا يستطيع فك شفرة الرسالة ليستوعب المراد. كل هذه العوائق واردة ولكن الأفظع في شأن التواصل بين الغرب والعالم الإسلامي أن الرسالة مطموسة بفعل فاعل ولا يظهر منها إلا الجزء المشوش.
 
المعتقدات الدينية تلعب دوراً بارزاً في تشكيل ثقافة المجتمع ونظرته للكون. وإذا ألقينا نظرة على مكانة الدين في المجتمع الغربي وبنفس القدر على مكانة الدين عند المسلمين نجد فجوة واسعة وهي الأساس في تشويش التواصل بين الفريقين. كلمة "الدين" عند الغربيين تحمل معانٍ سالبة وبالتالي أي مفردة لها دلالات دينية ستحمل إيحاءات سالبة بالضرورة. والسبب وجيه جداً وهو أن الدين المسيحي كان سبباً أساسياً في تخلف الغرب حيث كانت الكنيسة في القرون الوسطى تهيمن على شؤون الحياة وهي التي كانت تضفي الشرعية لنظم الاستبداد السياسي، وبالتالي كانت تتربص بعلماء الطبيعة. العديد منهم تعرضوا للتنكيل والحرق لأنهم جاءوا بآراء تخالف رأي الكنيسة. ومن هنا فإن رواد النهضة الغربية الأوائل يسخرون من الدين بإعتباره عدواً للتقدم العلمي والحضاري وسبباً للحروب التي اجتاحت المجتمعات الغربية ردحاً من الزمن.
 

يصعب على الرجل الغربي ذي الخلفية المسيحية استيعاب ممارسة المسلم للشعائر الدينية كالصلوات الخمس بينما هو يجد صعوبة في الذهاب إلى الكنيسة مرة في الأسبوع
يصعب على الرجل الغربي ذي الخلفية المسيحية استيعاب ممارسة المسلم للشعائر الدينية كالصلوات الخمس بينما هو يجد صعوبة في الذهاب إلى الكنيسة مرة في الأسبوع
 

الإسلام من الناحية الأخرى عكس المسيحية تماماً، جمع شتات العرب وصنع منهم أمة أنارت ثلاث قارات في زمن قياسي وأقام حضارة شكلت الأساس الذي انبنى عليه الحضارة الحديثة. لذلك فإن كلمة "الدين" عند المسلمين هي الحياة وبالتالي فإن كل المفردات الدينية تحمل إيحاءات موجبة، حتى للشرقي غير المسلم الذي تعتبر الثقافة الإسلامية جزءً لا يتجزأ من تكوينه.
 
ومن هنا يصعب على الرجل الغربي ذي الخلفية المسيحية استيعاب ممارسة المسلم للشعائر الدينية كالصلوات الخمس بينما هو يجد صعوبة في الذهاب إلى الكنيسة مرة في الأسبوع، وقد يعد ذلك نوعاً من الهَوَس الديني! ويضاف إلى ذلك الصيام والحج وغيرها من مظاهر التدين عند المسلمين. لا يستوعب الغربيون معنى أن يتظاهر الناس في الطرقات ويضرموا النيران في أعلام الدول لأن شخصاً مغموراً في دولة أوروبية رسم كاريكاتيراً يسيئ فيه إلى رمز ديني إسلامي، بينما يظل المسيح وأمه العذراء مادة للسخرية في دور السنماء ومختلف وسائل الإعلام في أغلب الدول الغربية في إطار ما يسمى حرية التعبير دون يحرك ذلك ساكناً. عندما يؤلف مسلم كتاباً علمياً ويفتتحه بآيات قرآنية مثلاً أو أحاديث يكون قد صرف القاريء الغربي تماماً عن قراءة محتوى الكتاب لأن القاريء يظن أن الكتاب يفتقر إلى المصداقية العلمية لأنه سيتضمن إشارات دينية لا تخضع لمنطق العلم، أو هكذا يظن.
 
الوهن الحضاري الذي أصاب المسلمين وجعلهم مستهلكين لإنتاج الغير أثّر حتى في ذوقهم اللغوي لدرجة أنهم يترجمون المصطلحات التي تحمل المفاهيم الغربية إلى اللغة العربية ويفرغونها من محتوياتها العربية ويحملونها دلالات المفردات الغربية. كلمة "إرهاب" مثلاً من بين الكلمات الأكثر تداولاً اليوم باعتبارها ترجمة للكلمة الإنجليزية "terrorism". الكلمة الصحيحة المقابلة للمفردة الإنجليزية هي "الإرعاب" من الرعب، بينما كلمة "إرهاب" لها دلالات إيجابية مثل ما ورد في القرآن الكريم "وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" الآعراف 145. فالرهب في القرآن يحمل في الغالب دلالات الهيبة وليست الرعب. وكذلك المفردة الإنجليزية "fundamentalism" التي تترجم خطاً إلى "الأصولية". المفردة الإنجليزية لها دلالات سالبة تماماً بينما "الأصولية" في اللغة العربية لها دلالات إيجابية لأن الشخص الأصولي هو العالم المتخصص في علم أصول الفقه مثلاً فهو أقرب إلى الأكاديمي. وأما المفردة الإنجليزية فلها سياق تاريخي في الولايات المتحدة يجعها أقرب إلى "الخوارج". هناك أمثلة كثيرة جداً يضيق المجال لذكرها.
 
صناع القرار في الغرب يدركون الطاقة الكامنة في الإسلام، لذلك فإن أي محاولات لإحياء الإسلام من منظوره الشمولي سيقمعونها عبر ممثليهم الجاثمين على صدور الشعوب المسلمة، الذين لا يسمحون للإسلام أن يعبر عن ذاته إلا بالقدر الذي يضمن لهم الكرسي. وقد يعمد هؤلاء إلى إنتاج أمثال داعش وغيرها من الحركات المتطرفة، سواءً أكان بإشراف مباشر أو عن طريق تهيئة البيئة المناسبة التي تتكاثر فيها هذه التنظيمات الاصطناعية لتعبر عن غوغائية المسلمين وتخلف دينهم، ليأتي الإعلام الغربي ليصور المسلمين على أنهم متخلفون وأعداء الحضارة، كما كان يردد جورج بوش الابن أن "هؤلاء يستهدفون قيمنا".
 

ستظل الفجوة الثقافية قائمة وسيبقى التواصل بين المسلمين والغرب مشوشاً إلى أن يتمكن المسلمون من إنشاء نموذج حضاري يكون فيه المواطن قيمة غير مشروطة
ستظل الفجوة الثقافية قائمة وسيبقى التواصل بين المسلمين والغرب مشوشاً إلى أن يتمكن المسلمون من إنشاء نموذج حضاري يكون فيه المواطن قيمة غير مشروطة
  

النظم المستبدة تسمح لعلماء السلطان بمهاجمة الغرب "العلماني" وسب القيم الغربية، ويستغل اليمين المتطرف مثل هذا الخطاب لتشويه الإسلام، مع أن علمانية الغرب تكاد تكون نسخة محررة لنظام دولة المدينة، من حيث احترام كرامة الإنسان وتحقيق العدالة الإجتماعية وحرية التعبير وصون الحقوق وتحقيق الأمن والأمان وما إلى ذلك! القيم الغربية تقوم على التكافل (الضمان الاجتماعي) وحقوق المواطنة ومفهوم الموظف العام الذي هو خادم وليس سيداً كما هو عندنا. علماء السلطان لا يدركون هذه المعاني إما لأنهم لا يعرفونها أو لأنها تتعارض مع مصالح الاستبداد السياسي. الإعلام الغربي بحكم أنه مسيطر عليه من قبل جماعات المصالح يستفيد من هذه المادة البائسة المنتجة من فوق منابر الاستبداد لإبرازها على أنها الإسلام! وبالتالي فإن الإنسان الغربي عندما يسمع عن الإسلام يستحضر القمع والاستبداد والتخلف باسم الدين وهي سلبيات راسخية في الذاكرة الجماعية الغربية منذ القرون الوسطى.
 
إذن، ستظل الفجوة الثقافية قائمة وسيبقى التواصل بين المسلمين والغرب مشوشاً إلى أن يتمكن المسلمون من إنشاء نموذج حضاري يكون فيه المواطن قيمة غير مشروطة بحيث تتوفر له فيه أساسيات الحياة الكريمة وتحترم فيه إرادته، وتتحقق فيه العدالة وتصان الحقوق وتُنزَّل قيم الدين على الواقع دون إكراه أو تسلط. حينها سيكون التواصل بيننا وبين الغرب سلساً لأنه سيكون لنا أرضية أخلاقية ومنتوج حضاري نستطيع أن ننطلق منه. حينها نستطيع أن نقول للغربيين أن الحريات لابد لها من حدود وإلا تجاوزت الأخلاق، وأن الشذوذ الجنسي مخالف للفطرة ، وأن الزنا إهانة للمرأة، وأن الوالدين يكرمان في البيت وفاءً وعرفاناً لدورهما في التربية بدلاً من أخذهما إلى دار العجزة، وأن عش الزوجية هو الحاضنة المثالية للأطفال وليس علاقات الصداقة التي ليس فيها التزام.
 
نستطيع أن نقول بكل ثقة أن هذه هي تعاليم الإسلام. حينها نستطيع أن نوصل رسالتنا بأن الإنسان ليس مادة فقط وإنما روح أيضاً وأن التدين لا يعني الدجل والشعوذة وإنما يعني الارتباط بخالق الكون الذي هو أدرى بسرائر الإنسان وهو الأولى بتوجيهه. وبهذا نكون قد أسهمنا في تشذيب الحضارة الغربية بما يخدم الإنسانية جمعاء بفضل توصيل الرسالة بعيداً عن التشويش.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.