شعار قسم مدونات

لا مكان للنجاح والفشل في "الحياة الطيبة"

مدونات - امرأة وسلالم

ربّما لا توجد أكثر من كلمتي "ناجح" أو "فاشل" نسمعهما في حياتنا الاجتماعية والسياسية. فمذ كنّا صغارًا لا نسمع من والدينا ومدرّسينا في البيت والمدرسة أكثر من صفتي النجاح والفشل. ثمّ كبرنا، واستمررنا في وصف أنفسنا بها، فدائمًا نحن إمّا فاشلون وإمّا ناجحون. واستمررنا في وصف أقاربنا وأصدقائنا وأولادنا بها كذلك. والناجح هو المرضيّ عنه دائمًا وهو المحبوب وهو من يتقرّب منه الجميع. أمّا الفاشل فهو من يلاحقه السخط، والهمز واللمز، وهو المتروك الذي قد لا يحبّه أحد، ولا يرى أحد أيّ فائدة في التقرّب منه أو التعرّف عليه.

 
أصبح "النجاح" والرغبة في النجاح والسعي له ضغطًا كبيرًا على الأفراد، وخاصة اليافعين منهم. ولأجل هذا النجاح المزعوم تُؤلف العشرات بل والمئات من الكتب الإرشاديّة، وتُعطى المحاضرات التي يرتادها الكثير ليسمعوا وصفات النجاح السحرية. وكأنّ النجاح غدا مثل الوجبات الجاهزة والسريعة، مثل وجبة كنتاكي أو ماكدونالدز، يوجد وصفة محددة، تُتّبع باحترافية، فتنتج أكلة محدّدة لها طعم معروف سلفًا. نمثّل جميعًا أنّنا سعداء حين نأكل هذه الوجبة التي نعرف طعمها من قبل. نفرح لأنّنا عرفنا "سرّ الخلطة" وعرفنا "كيف نعدّ الوجبة" أو كيف نصل للنجاح.

 
النجاح لكثير من الأسر المصرية هو أن تذاكر ابنتهم بجد واجتهاد، وتحصل على أعلى الدرجات، التي ستستطيع بها دخول كلية الطب، وفي أسوأ الاحتمالات طب الأسنان، أو الصيدلة أو الهندسة. ستتخرج، وتحصل على وظيفة معقولة. سيكفل لها لقب طبيبة مكانة اجتماعية متميزة لحصولها على لقب "دكتور" وهي بعدُ لم تتخرّج. ستتزوج ممّن يكافئها قبل الثلاثين، وتنجب طفلين، وتعيش في شقة تمليك في منطقة متميزة.

يبدو نموذج "النجاح" هذا مصمتًا، لا مكان فيه للمفاجآت، لتصاريف القدر، للمرض، لثورة تحدث في البلد، لموهبة تُكتشف، لزوج غير مناسب، لحبيب يتخاذل.. نموذج ليس فيه أيّ مسحة لاختيارات أخرى. يبدو مع السعي الحثيث للنجاح المرسوم سَلفًا، أنّه لا مكان للـرّضا سوى بشروط، ويبدو المكان واسعًا لإلقاء اللوم على من هي منوطٌ بها النجاح، أو السخط المستمر على الحال وإن رزقنا الله نعم كثيرة، مثل المعافاة من المرض، أو وجود المرض مع القدرة على علاجه، أو وجود من يؤنسك ويتفقدك، أو وجود البيت الساتر، أو كلّ ذلك جميعًا.
 

ثنائية النجاح والفشل تصيبنا بالاغتراب والوحدة، فكثيرًا ما تكون واجباتنا نحو آخرين في حياتنا معوّقًا للسعي لنجاح مزعوم
ثنائية النجاح والفشل تصيبنا بالاغتراب والوحدة، فكثيرًا ما تكون واجباتنا نحو آخرين في حياتنا معوّقًا للسعي لنجاح مزعوم
  

قبل عصرنا الحديث الذي أغرانا بسعادة تجلبها الكهرباء والتصنيع والتكنولوجيا، لم يكن في عصر ما قل الحداثة، حياة ناجحة أو فاشلة. بل كان هناك ما يسمّى "الحياة الطيبة" الحياة التي تسير نحو غاية متعلّقة بالدار الآخرة حقيقةً، التي تشدّ الأفعال الإنسانية جميعًا إليها، وتجعلها صالحة. "الحياة الطيبة" عرفها اليونان، كلمنا عنها الفيلسوف "أرسطو" ي كتابه عن الأخلاق. كما عرفها المسلمون، وعاشوها وألّفوا فيها كتبًا كثيرة.

 
تضع لنا الحياة الحديثة "أهدافًا" محدّدة بتوقيتات محدّدة، فإن حققناها كافأتنا بصفة "ناجح" أو "ناجحة" وأعطتنا الفرصة لنكتب قصص نجاحنا المزعومة ونحن لا نزال في مقتبل العمر أو منتصفه، ونفخر بها. ربما لمعرفتها أنّ هذه اللحظات مؤقتة، فعلينا تعظيمها، فقد لا نستطيع تحقيق الهدف القادم في موعده، فنصاب بـ "الفشل."  في حين ترفق بنا "الحياة الطيبة" فتضع للإنسان غاية واحدة، عليه أن يسعى ليجعل أفعاله كلّها متوجّهة نحو هذه الغاية، ويجاهد ما استطاع سبيلاً، ولا يُطلق عليه "إنسان صالح" سوى في نهاية حياته، أو بعد مماته. تعلمنا الحياة الطيبة إذن ألاّ نسارع بالحكم على أنفسنا وعلى الآخرين، فقد يعيش إنسان ما حياة لاهية، ثم يتوب ويختمها بحياة صالحة، وقد يحدث العكس. فالعبرة باتّصال المجاهدة لفعل الصالحات لآخر العمر.

 
ثنائية النجاح والفشل، تصيبنا بالاغتراب والوحدة، فكثيرًا ما تكون واجباتنا نحو آخرين في حياتنا معوّقًا للسعي لنجاح مزعوم. في حين تعطينا الحياة الطيبة الفرصة للعيش سويًّا، فالأعمال الصالحة يجب أن تتعلّق بمن هم في مسؤوليتنا في المقام الأوّل. "النّجاح والفشل" ثنائية من أمراض الحداثة، ربّما علينا التخلّي عنها في أقرب فرصة، والرضا بما نحن فيه من نعم، وتقدير الطيبات التي نرفل فيها. لا يوجد وصفة واحدة للحياة، ولا يمكن أن يتسابق أناسٌ مختلفون للوصول لوصفة نجاح واحدة. في الحياة سَعة وفي الاختلاف رحمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.