شعار قسم مدونات

لا أريد أن أكون نسخة من أحد

BLOGS فتاة علي البحر

خطط والداها لحياتها قبل أن تولد، وضعا لائحة بأسماء الحضانة والروض والمدارس الذي ستدرس فيها بعد ذلك، والدولة التي ستدرس فيها وتتخصص في جامعاتها. جاءت الطفلة إلى الوجود فوجدت كل شيء منظما، مواعيد الأكل والنوم والاستيقاظ والاستحمام واللمجة ونادي السباحة، وأستاذ البيانو وكل شيء آخر يمكن تخيله، كانت تعيش داخل بيت أبوين درسا الطب وتخصصا فيه، أغدقت عليهما الحياة فأغدقا بدورهما على ابنتهما الوحيدة وجعلا منها أميرة صغيرة تعيش وفق بروتوكول لا هروب منه أبدا.

 

كانت تشاهد من خلال زجاج النافذة الأطفال يلعبون ويتراشقون بالماء، يسقطون في الوحل وينهضون وكأن شيئا لم يكن، يمسكون بالقطط ويلاعبونها، يضحكون ويبكون، يتسلقون الأشجار، كانت تشاهدهم وهم يكتشفون عالمهم الخاص بهم، عالما فيه الحرية هي أهم شيء وأهم من كل شيء، ليست حرية التعبير ولا حرية المعتقد ولا أي شيء من تلك الحريات التي صرنا نسمع عنها الكثير عندما كبرنا. كان حلمها أن تنعم بحرية اللعب مع أقرانها متى شاءت دون أن تكون مواعيد تعلم الصينية والإنجليزية والبيانو والبالي وركوب الخيل وغيرها من الأنشطة والهوايات التي اختارها والداها عائقا لذلك.

 

كان الوالدان مشغولين في المستشفى والعيادة كل يوم، حتى في الأعياد والمناسبات، كان وقتهما محدودا جدا ولا يسمح لهما بقضاء وقت مع ثمرة حبهما
كان الوالدان مشغولين في المستشفى والعيادة كل يوم، حتى في الأعياد والمناسبات، كان وقتهما محدودا جدا ولا يسمح لهما بقضاء وقت مع ثمرة حبهما
 

كانت المساعدة تحضر لها السرير على الساعة الثامنة مساء، مباشرة بعد تناول العشاء وغسل الأيدي والأسنان، تساعدها على ربط ضفائرها قبل النوم، تطفئ النور وتغلق الباب، فكانت بذلك تطفئ كل أمل باللعب والإطاحة بذلك النظام القائم الذي باتت تمقته بسبب روتينه اللامتناهي. لكن الطفلة لم تكن تريد أن تنام، كانت تريد أن تلعب، أن تجلس أطول مدة ممكنة مع والديها وتلاعبهما، كانت تريد أن تسمع قصصهما التي لم تسمعها أبدا، كانت تود أن تجتمع بهما، أن لا يقلها السائق إلى المدرسة والنادي، أن يقلها والدها كبقية الأطفال في مدرستها وتنتظرها أمها عند نهاية الدرس. كانت تود أن تشعر بتلك اللهفة التي تراها في عيون أقرانها عند خروجهم من باب المدرسة ورؤيتهم لذويهم ينتظرونهم بابتسامة عريضة رغم كل التعب في العمل وزحمة المرور.

 

لكنهما كانا مشغولين في المستشفى والعيادة كل يوم، حتى في الأعياد والمناسبات، كان وقتهما محدودا جدا ولا يسمح لهما بقضاء وقت مع ثمرة حبهما، كانا يعملان جاهدا لتوفير احتياجاتها وتأمين مستقبلها ودراستها في الخارج. كانا يأتيان متأخرا فيذهب الأب كل ليلة إلى غرفة صغيرته ليراها وهي نائمة. كانت نائمة في كل المرات التي ذهب فيها على رؤوس أصابعه، ليتفاجأ بعد مرور الأيام بكون صغيرته كبرت وبدت عليها علامات البلوغ. كانوا يعيشون في نفس المنزل المترامي الأطراف لكنهما كانا يعيشان بعيدا عنها، كانا يحضران لحياتها في المستقبل لكنهما نسيا الحاضر الذي هو كل ما نملك. 

 

كانت الصغيرة تسمع قصص صديقاتها في القسم عن آبائهم وأمهاتهم وإخوتهن، فتتشوق وتحلم بأخ أو أخت يأتيان فيملآ عليها عالمها البارد الفارغ، حتى إن لم تلعب في الحديقة مع قرانها فستجد أخا تلعب معه، تسليه ويسليها، لكنها لم تكن تجرؤ على طلب ذلك أو بالأحرى لم تكن تعرف كيف ستطلب ذلك، ومن فيهما المسؤول عن الإنجاب. 

 

أنا أقدر كل شيء فعلتموه من أجلي وسأظل ممتنة، كل التضحية والحب والجهد، لكن لم تسألاني أبدا عن أحلامي، أريد أن أكون أنا ولو مرة في حياتي، لا أريد أن أكون نسخة من أحد
أنا أقدر كل شيء فعلتموه من أجلي وسأظل ممتنة، كل التضحية والحب والجهد، لكن لم تسألاني أبدا عن أحلامي، أريد أن أكون أنا ولو مرة في حياتي، لا أريد أن أكون نسخة من أحد
 

كان لديها "كل شيء" في نظر أبويها لكنها لم تكن سعيدة، استعانا بطبيب نفسي، صديق قديم من دفعتهما ليعالج حالة الصمت والاكتئاب التي انتبها لها مؤخرا والتي صارت تعيشها طفلتهما الوحيدة المدللة لكنها لم تكن قادرة على الكلام والبوح بكل تلك الأشياء التي كانت تزعجها، بالوحدة القاتلة والخوف من الظلام، والرغبة في الدفء الأبوي والحلم باللعب مع أقرانها، الحلم بحيز صغير من الحرية تُمارس فيه شغبها المكبوت، وعدم الامتثال للبروتوكول والقواعد المنزلية الصارمة التي أثقلت كاهلها منذ فتحت عينيها على الدنيا. كانت تريد أن تنعم بالفوضى، ألا يأتي السائق أو يتأخر عن ميعاده على الأقل، أن تنسى المساعدة المنزلية ترتيب حياتها كما كانت ترتب أثاث البيت بعناية كل يوم. 

 

امتنعت عن الحديث والبوح للطبيب النفسي رغم أنها كانت تريد البوح، لجأت إلى الصمت حليفها الأزلي. أخبرهما الطبيب بأن ابنتهما تعاني ربما من الضجر، نصحهما بالسفر، سافروا إلى مدينة ساحلية واستقروا في فندق فاخر، انكبت الأم على بحث كانت تنجزه لمجلة علمية بينما خرج الأب إلى الشرفة من أجل إجراء مكالمات هاتفية. ظلت الطفلة وحيدة مرة أخرى لكن في مكان آخر. انكبت على كتب انتقاها والدها بعناية، أحضرتها معها لتحارب الضجر، كانت تود أن تصرخ في الغرفة لتجلب انتباه والديها لكن جدار الصمت التي بنته السنين منذ زمن كان صعب الانكسار. 

 

انقضت العطلة بسرعة، عادوا إلى بيتهم صامتين إلا من حوارات بين الزوجين حول العمل والعيادة والجامعة والمؤتمرات. مرت السنين بسرعة كالعطلة، حصلت الفتاة على نقط عالية تخولها دراسة الطب كوالديها. كانا فخورين جدا بإنجازهما، نجاح ابنتهما بامتياز ومسارها لإكمال مسار أبويها، لكنها في لحظة تمرد أخبرتهما بصرامة وكأنها فتاة غريبة أنها لن تدرس الطب لأنها لا تجد نفسها فيه وأنها قررت أن تدرس الفلسفة وعلم الاجتماع. نزل الخبر عليهما كالصاعقة لكن الصمت علمها أن تكون قوية وتفرض رأيها بقوة لأول مرة كما لم تفرضه من قبل: "أنا أقدر كل شيء فعلتموه من أجلي وسأظل ممتنة، كل التضحية والحب والجهد، لكن لم تسألاني أبدا عن أحلامي، أريد أن أكون أنا ولو مرة في حياتي، لا أريد أن أكون نسخة من أحد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.