شعار قسم مدونات

معايير أخرى للنجاح.. وجهة نظر شبابية

مدونات - رجل

لقد اعتدنا مجتمعياً ولفترة طويلة من الزمن على أن تكون الأولوية لنا بعد التخرج من الجامعة هي التفكير بالاستقرار؛ شراء بيت، زواج، اقتناء سيارة وما إلى ذلك، ولكن في ظل كل التطور الذي نعيشه اليوم هل نبقى على ما ورثناه من عادات آبائنا وأجدادنا! هل فعلا المجدي أكثر في هذه الأيام شراء بيت أم السفر حول العالم! من الذي سيكون له أثر أكبر في بناء وتكوين شخصية في هذه الأيام! هل شراء البيت سيزيد مهاراتك التي ستؤهلك في حياتك الشخصية والمهنية بعد ٢٠ عاما لتتولى منصبا تستطيع من خلاله العيش في بيت لائق بشخصيتك وعملك ومناسبا من حيث الموقع لك ولعائلتك!

 

لأكون موضوعية؛ إن الاستقرار في بيت ملك له الكثير من الفوائد، فهو على المدى الطويل مريح لك ولعائلاتك، فوجود بيت كملكية شخصية مريح ماديا لكبرك وبالإمكان الاستثمار به وتأجيره إن قررت شراء بيت آخر في المستقبل البعيد، كذلك إن امتلاك بيت يزيد الشعور بالاستقرار والارتباط بالمكان الذي نعيش به، ولكن هل حقاً ما نريد هو الاستقرار في ظل عدم استقرار أي ظرف محيط سواء سياسي، أو اجتماعي، أو حتى اقتصادي في المجتمع الذي نعيش به! كما أن غلاء المعيشة الذي نعاصره وارتفاع الأسعار الذي لا يقابله زيادة في الدخل في منطقتنا سيشكل مصدر قلق إن كنا فعلا سنستطيع سداد ثمن البيت على المدة الزمنية المتوقعة لإنهاء أقساطه.
 

صدمة! تسديد ثمن بيت لمدة تزيد عن ٢٠ عاما!

صدمت من فترة قريبة بصديق أخبرني أنه قد اشترى بيتاً ليسدد ثمنه على حوالي ٢٠عاماً، والحقيقة أنني صدمت فور سماعي لهذا الرقم ومبلغ التسديد الشهري، فصديقي في الخامسة والعشرين من عمره سيبدأ بتسديد ثمن بيت إلى أن يصل لعمر الخامسة والأربعين، ثم ماذا؟ يصبح مالك بيت! حقاً!! وما هي القيمة الحقيقية التي أضيفت لشخصيته، ولخبرته! عن أي إنجازات سيتحدث بعد عشرون عاماً! أنه قضى فترة شبابه يدفع ثمن بيت سيرثه أبناءه منه بعد الموت!
 

undefined
 
ولا أنكر أنني تدخلت وسألت صديقي في ذلك الحين عما إذا كان متأكداً أنه سيقضي حياته كاملة في فلسطين أو يفكر بالانتقال والعيش بالخارج سواء لإكمال دراسة أو لعمل، فقد بتنا اليوم في عالم منفتح جداً وبه آفاق للعمل والتنقل عظيمة وأصبحنا أكثر عرضة للحصول على فرص عمل خارجية مميزة ولا تعوض لأنها ستضيف الكثير لشخصيته وحياته المهنية، ولكنه أجاب أني حاليا أعمل هنا. حالة الصديق لا تختلف كثيراً عن باقي حياة الشباب في شعبنا فالكثير منا يفضلوا اقتناء بيت وسيارة بأثمان باهظة وديون تتراكم لسنوات بالإمكان تسديدها وأطفالنا سويا في المستقبل فما الحاجة لكل هذا! عدا عن كون هذه الشقة التي قد اشتراها ستصبح بعد ٢٠ عاما بناء قديم ولا تعلم هل فعلا سيكون بحالة جيدة أم لا عدا عن كون سعر عقار كهذه الشقة سيصبح أقل بتقدم العمر أي أن هذا الاستثمار سيقل ثمنه وبالتالي سيكون خاسر.
 

قيمة المشتريات!

تذكر/ي دوماً أن قيمة المشتريات غير محفوظة أي لن تبقى ثابتة للأبد، وحجم المخاطرة في هذه الاستثمارات كبير جدا، ففي فلسطين مثلا لو قمت بشراء بيت وبعد فترة اكتشفت أن البلدية منحت ترخيصا لمنطقة صناعية قريبة سيفقد هذا البيت قيمته التي دفعتها عند الشراء، عدا عن كون الاستثمار في بيت وشراءه سيعيقك على مستويين؛ الأول، المبلغ الكبير عند الشراء "القيمة الشرائية العالية" والثاني تكاليف تشغيلية للصيانة، فعندما تعيش في بيتك الملك ستقوم بأعمال صيانة لهذا البيت كل ٤-٥ سنوات على الأكثر ومن الطبيعي أن تكون أنت في غنى عن هذه المبالغ التي تدفع للصيانة لو كنت مستأجرا لهذا العقار وقمت بتغييره بالفترة ذاتها، عدا عن كون تغيير العقار واستئجار عقار جديد سيضمن لك دوماً العيش في مباني حديثة وجديدة أي مواكبة لكل التطورات "مقاومة للزلازل، أمور التدفئة وأمور أخرى"، عدا عن كون الكثير منا يفضلون أن يكون مكان سكنهم قريب من مكان العمل لاستثمار الوقت الذي يتم صرفه في التنقل بالمسافات الطويلة للعمل والراحة وأمور أخرى، وفكرة شراء بيت والارتباط به ستقيد هذه الفكرة وتجعلك حبيس المكان في هذه الحالة. 
 

الاستثمار الحقيقي!

لم أقتنع في يوم من الأيام أن الجلوس في مكتب يومياً من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الرابعة عصراً لمدة عشرون عاماً -مدة تسديد القرض على اعتبار أنه سيقيدنا ماديا بحسب الأصدقاء الذي قاموا بالشراء فعلا- ستبني خبرة نضعها في سيرة ذاتية قيمة وندعي بعد ذلك أننا لدينا خبرة عشرين عاماً حقاً؛ هذه ليست سوى خبرة عام وتم تكرارها بنظام النسخ واللصق كما يفعل الناس بالمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي! الخبرة الحقيقية تبنى بتجربة مغامرات جديدة، الاستفادة من تجارب الآخرين، المشاركة في نقل الخبرات، التعلم عبر السفر، التعلم عبر بناء مشاريع خاصة، والكثير من الأمور التي لا يسعني ذكرها جميعا هنا. وبحسب الكاتب جيمس هامبلين "على مدار العقد الماضي، قام علماء النفس بإجراء الكثير من الأبحاث التي تثبت أن الإنفاق على التجارب الجديدة يحمل فائدة أكبر بكثير من شراء أشياء جديدة، أنه ممتع ويجلب المزيد من الفرح".

نعاصر اليوم أساليب تفكير مختلفة، لعل أحدها أسلوب التفكير الذي يسوق لشراء بيت في مدينة أخرى لنذهب إليها في إجازاتنا، مع أنه بالإمكان قضاء كل إجازة في بقعة مختلفة
نعاصر اليوم أساليب تفكير مختلفة، لعل أحدها أسلوب التفكير الذي يسوق لشراء بيت في مدينة أخرى لنذهب إليها في إجازاتنا، مع أنه بالإمكان قضاء كل إجازة في بقعة مختلفة

 
ربما سابقاً لم يكن العالم منفتح كما اليوم، ولم يتمكن الآباء ولا الأجداد من تخطيط رحلاتهم كما اليوم، ولم يستطيعوا التفكير بالبناء والاستثمار بمشاريع خاصة وشخصية والتي ربما تكون في مكان معاكس تماماً للمكان الذي يعيشون به حالياً، ولكن ظروفنا اليوم باتت تختلف وبات تقليد الآباء والأجداد والالتزام بهذه التقاليد التي عاشوا عليها يهمش عقلنا البشري، فما كان يناسبهم ربما لا يناسبنا أو حتى بالتأكيد لا يناسبنا. فبحسب مجلة فوربس يميل الشباب اليوم لتغيير وظائفهم كل ثلاث سنوات وعليه هذا يفتح المجال للحصول على عمل خارج المدينة التي نعيش بها أو حتى خارج الدولة وعليه فكرة التقيد لمدة عشرين عاما بنفس المكان تعد مقيدة وخانقة على المستوى المهني أولا والشخصي ثانياً!

نعاصر اليوم أساليب تفكير متعددة ومتنوعة لعل أحدها أسلوب التفكير الذي يسوق لشراء بيت في مدينة أخرى لنذهب إليها في إجازاتنا -كل إجازاتنا- مع أنه بالإمكان قضاء كل إجازة في بقعة مختلفة بالعالم وبتكاليف بسيطة وعبر حجوزات حديثة عبر الإنترنت! هل ذهابنا في كل إجازاتنا لنفس المكان سيعلمنا بنفس القدر الذي سنتعلم به لو سافرنا كل إجازة لمكان جديد!

 

الفائدة من الخبرة والاستثمار الحقيقيين!

في هذا الوقت الذي نعاصره علَّ الاستثمار الحقيقي يكون استثمار في المعرفة والتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين والسفر والترحال والتنقل الذي سيساعد في بناء معرفة لا يمكن اكتسابها بالجلوس في بيت ملك أو بالبقاء حبيس الوظيفة العادية، لعل هذه المغامرات ستساعدنا في تطوير الوظيفة والعمل على بناء عمل خاص وحر في يوم من الأيام، ولعل أيضاً هذه المهارات ستساعد في خلق ريع مادي أكبر بكثير من الاستثمار في عقار لا نعلم في ظل الظروف الغير مستقرة ما هو مصيره!

 

undefined
 
وأضف لكل ما سبق أن التجارب الجديدة، والمغامرات، والسفر، والمشاريع والمبادرات الشخصية تساعد في بناء شبكة علاقات واسعة وكبيرة تستطيع من خلالها دوماً الحصول على فرص أكبر وأعظم وتستطيع من خلالها تحسين مهنتك، وخبرتك، وعملك وبالتالي تحسين الأوضاع الاقتصادية التي تقود للاستقرار في مرحلة من المراحل وذلك أفضل من الاستقرار مباشرة دون التمتع بكل ما سبق!

 

الخيارات اليوم

وبالنهاية؛ الخيار مفتوح والحريات في هذا العالم كبيرة لاختيار الأنسب لكل شخص ولكن أتعجب ممن يرثون كل معتقدات وطرق حياة الآباء والأجداد، فالحياة أقصر من أن نرث حتى طريقة تسلسل حياة كبارنا، فموروثات كهذه تعني أننا نقرر أن نعيش كما اختار أجدادنا العيش قبل خمسمائة عام على الأقل، دعونا نخط الحياة بطريقتنا، نخطئ ونصيب ونتعلم ونستثمر في أنفسنا حتى نجدها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.