شعار قسم مدونات

الذباب الإلكتروني

مدونات - الذباب الإلكتروني

هو طنين لا أكثر، سباحة عشوائية في الفضاء الأزرق، لا مسار ولا مسير، يحوم على شكل كتل دائرية لكن أحدهم لا يعرف الآخر، يجمعهم حرارة الموقف وجيفة الحدث، تحاول أن تبدد سحابة الاشتباك بيديك وعقلك، فتفشل، تغلق أذنيك أو تسد أنفك بكفك وتغادر، فالسوي لا يرضى أن يستنشق رائحة الفرقة أو ينصت طويلاً إلى رفرفة الأجنحة المتسّخة.

 

ثمة عبقرية في اختيار هذا المصطلح: "الذباب الإلكتروني" والذي أطلق مؤخراً على أصحاب الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تغير قبلتها حيث يقف الحاكم، وتشنّ حربها وتبوح بقاموس شتائمها، أو تخلع عباءة حيائها وتبدي استعدادها للتطبيع أو المديح لعدو الأمة "إسرائيل" إن كان ذلك يرضي الحاكم بأمر الله وميوله، قلت إن العبقرية في اختراع هذا المصطلح مدهشة.. فالذباب لا يصنع عسلاً، والذباب لا يقبل بالمواجهة، هو يزعجك فقط لكن ليس ندّاً حقيقاً لك، لو أحضرت أعتى الأسلحة لن تقدر عليه لأنه أصغر منها جميعاً وأتفه منها جميعاً، الذباب الإلكتروني لا تغريه المواقف النظيفة فلا يحلّق فوقها، هو يطير دائماً حيث فضلات التصريحات والمواقف الميتة، يحوم طويلاً يتغذّى عليها.. حتى تتحل جيفة الكلام ويبلى جسد الحدث فيطير أو يموت دون أن يشكره أحد أو يعتدّ به أحد..

 

 

حزين كيف أصبح العربي، شتّام، قاس، مفترٍ، يتربّع على قائمة منتجي البذاءة، والتخوين والتشكيك، تجاه شقيقه العربي، لمجرّد اختلاف السياسات بين الدول، حزين كيف أصبح العربي الذي يشكو أنظمته ليل نهار، وتستغفله ليل نهار، وتصنع ديكتاتورياتها بغفلة منه ليل نهار، أصبح  لا يطير الا تحت ذيل أنظمته، يكفر بحريته وعقله ووعيه وعروبته للاصطفاف خلف عربة القيادة، حزين أن كم الكتب التي تحتل رفوف المكتبات العربية، ومئات الجامعات التي تمنح شهادات عليا، وآلاف المفكّرين والشعراء والأدباء، وسقوط ثلاث عواصم عربية  تحت الاحتلال، لم تشعل شمعة واحدة في كهف التفكير العربي حول مصير الأمة، لم توقظ به حسّه حول الخطر القادم، وما زال يعيد إنتاج داحس والغبراء بطريقة معاصرة وبأبعادها الثلاثية، يتلذذ في قتل الشقيق وقهر الشقيق وخنق الشقيق وبيع الشقيق في سوق الرقيق، لترضى عنه ألهتا  الفتنة  داحس والغبراء لتشعلان حروباً لا تهداً من الشتائم والسباب والازدراء، بين أرضين الفيسبوك و"التويتر".. ثم يصرّون بعد كل هذا "التقيؤ" اللفظي أن ما يفعلونه مجرّد "تغريد"!

 

حزين أن يصبح احتلال "فلسطين" مجرد وجهة نظر، وأن تصبح "إسرائيل" دولة لم تنصب العداء لأحد، ولا يوجد ما يمنع أن تكون حليفة أو حتى شقيقة لم تلدها الأمة العربية، حزين أن يسوّق "الذباب الإلكتروني" لعلاقات عربية إسرائيلية أوسع وأسرع ويستبدلون كلمة "القدس" بــ"أورشاليم" في حواراتهم وسجالاتهم وجدالهم واختلافهم.. ألهذا الحد وصل الأمر بذباب التخلّف العربي أن يصف القدس بـ"أورشاليم" نكاية بأصحاب القضية أو بالعروبيين المتمسكين بقضيتهم..

 

حزين أن تتفسخ معركتنا الأولى إلى معارك جانبية، معارك عربية عربية كيفما يسيل الدم فيها فهو بعض من دمنا، وكيفما تؤذى الأعراض فيها فهي بعض من عرضنا.. حزين أن يصبح للذباب خطاب ومنصّة وعسل مرّ يباع في نشرات الأخبار على أنها "تريند أو هاشتاغ".. حزين على تكاثر الذباب فوق الجرح العربي الغائر، يدميه، يؤذيه، ويعرضه للبتر الأبدي.. حزين لهذا الطنين العالي.. وللنشوة الرسمية لتكاثر الأجنحة المريضة فوق رؤوس الأنظمة.. فمتى نستخدم "مبيد" الحكمة والتعقل.. لتسقط خلافاتنا تحت أحذيتنا.. متى؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.