شعار قسم مدونات

أحطّ العبيد.. الخونة الصغار

مدونات - أنصار السيسي

ذكروا عن عمر بن عبد العزيز، وعن غيره، قولهم إن أحمق الناس رجل باع آخرته بدنيا غيره، وجاء شبيه هذا اللفظ مرفوعًا للنبي، صلى الله عليه وسلم، لكن لعل أهل الحديث لا يصحّحون مثله مرفوعًا، ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجة في سننه من حدث أبي أمامة عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، عبد أذهب آخرته بدنيا غيره"، وفي مسند الطيالسي عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من أسوأ الناس منزلة من أذهب آخرته بدنيا غيره".

  
فهو أحمق الناس، ومن شرهم وأسوئهم منزلة عند الله يوم القيامة، وهو بالغ الانحطاط، يطوي في نفسه فرعونًا صغيرًا، لكنه جبان وضيع، وإلا فأيّ شيء يحمل امرءًا على التبجّح بتأييد طاغية يسفك دم الناس ويسحق أعمارهم في السجون ويأكل أموالهم بالباطل، وهو أي ذلك المؤيِّد، قد ينتفع من ذلك الطاغية، وقد لا ينتفع، بل قد يكون في بلاد أخرى، لا يناله من ذلك الطاغية شيء؟ فأي شيء يحمله على بيع آخرته، والهويّ في نار جهنّم، بكلمة يقولها في تأييد ظلم طاغية؟

  
بعد أحداث رابعة العدوية اتصل بي شخص كان يفترض أنه صديق وزميل دراسة، اتصل، وقد أراد أن يشتفي بما ظنّه سيجده عندي من حزن وقهر، ولم يخب ظنّي بعد أن رأيت اسمه على شاشة الجوال، فوجدته سعيدًا بما جرى، متوقعًا أن تتداعى الأحداث وتمتد من مصر وصولاً إلى غزّة لسحق حماس هناك. سألته: هل نحن أصدقاء وزملاء؟ قال: نعم؛ بالتأكيد. قلت له: أنت مسرور لما جرى؟ قال: نعم، لا أخفيك. قلت له: لو كنتَ هناك ربما لكنتَ ممن يرقصون على الجثث يغنون "تسلم الأيادي" أو ممن استباحوا الناس؟ قال: لعله، محتمل. قلت له: وأنت ربما تصنّفني بأنني من طائفة هؤلاء المقتولين؟ قال: إلى أين تريد الوصول بسؤلك هذا؟ قلت له: لو كانت هذه الأحداث عندنا لسحلتني في الشارع أو رقصت على جثّتي. ليست مهمة بقية المحاورة، ولكن المهم ما تكشف عنه من فرعون صغير تافه حجبته الظروف عن سحق الذين يكرههم!

  
يحدّثنا القرآن عن صنف من هؤلاء السافلين بانحطاطهم وافتقارهم للرجولة، ويكشف عن موضعهم المرذول، ومكان الخزي الذي هم فيه يوم القيامة، إذ يتبرأ منهم متبوعوهم، ومن ذلك قوله جلّ وعلا: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ".

   undefined
 
لكنّ الصنف الأكثر دناءة وأجدر بالاستحقار؛ هم هؤلاء الذين لم يجدوا فرصة لاتباع طغاة بأعيانهم، فوالوهم من مكان بعيد، يلعقون بألسنتهم، ويجعلون في رقابهم، أوزار الدماء التي اقترفتها أيدي الطغاة، دون أن تنالهم بذلك فضلة من فتات الطغاة، وقد كان يسعهم أدنى المروءة بكفّ اللسان، فكيف وقد اختاروا أرذل مما ينحطّ به المرء عن مرتبة الرجولة؛ المسارعة إلى المشاركة في إثم الطاغية دون إكراه وبلا انتفاع؟! يمكن القول إنّ هذا الصنف يقع في شرّ البريّة، لانحطاطه الكامل عن مجرد الرتبة البشرية، فكيف بالكمال الإنساني ودرجات الكرامة العليا التي اختارها الله للبشر، وجعل بلوغها منوطًا بأفعالهم بتخلصهم الدائب من تعلقات البهيمية فيهم وصولاً إلى درجات خير البريّة.
 

الطاغية قد يكون صنيعة العدو ابتداء، وطغاة زماننا جبناء، من النوع الرديء كما سبق قوله، فإن لم يكونوا صنائع العدو، فإنّهم لجبنهم، وانطماس بصائرهم، يتحوّلون سريعًا إلى الخيانة

فالمنحط، إن لم يتح له أن يدنو تحت أمر الطاغية، ويسفل بين يديه وتحت حذائه، فإنّه يختار ذلك من مكان بعيد، مقررًا أن يكون عبدًا لمن هو مثله من البشر، ولصنف رديء من الطغاة كما هو الحال اليوم، صنف من الطغاة لا يملأ عينًا، ولا تطرب رطانته الهاذية أذنًا، ولا يترك حضوره في النفس هيبة. ثم إنك تسأل، لو أن عُصبًا انتفعت من هذا الطاغية حيث هو فوالته وقاتلت دونه وسعت لهلاك خصومه، لأمكنك أن تقع على سبب يفسّر اتضاعها ولا يبرّره، لكن أيّ شيء يصنع هوى لهذا الطاغية التافه في نفوس هؤلاء البعيدين؟ الجواب للنظرة الأولى يبدو عسيرًا، لكنه بسيط وقريب، وهو أنّهم لا يجدر بهم إلا الأتفه من درجات العبودية، الأكثر سفولاً. فلما كانوا تفاهين بهذا القدر، وقعت عبوديتهم لأتفه الطغاة، ومن مكان بعيد، حيث لا انتفاع لهم في الدنيا، ولا حجة إكراه في الآخرة، لن يقولوا كما قال بعض الأتباع: "وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا"، حتّى هذه لن تكون لهم.

 

هؤلاء يقينًا دون الأنعام، فالبهيمية في ذاتها دون الرتبة البشرية، ومع ذلك لا تعبد الأنعام أحدًا من مرتبة المخلوقين، "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا"، وقد سمّى الله الشرك ظلمًا، فالمشرك يظلم نفسه ابتداء إذ انحط بنفسه عن آدميتها ليعبد مخلوقًا مثله، ثم يظلم الجنس البشري كلّه حينما يقرّر بشركه أنه يمكن للإنسان المكرّم أن يكون عبدًا لمخلوق مثله!

 
ثمّة رتبة لهؤلاء، تقع في قعر أدنى درجاتهم، وهم الخونة الصغار، الذين لا يكتفون بالدفاع عن الطغاة فيما يقترفونه من قتل وظلم للناس، وإنما يدافعون عن خيانات الطغاة، ويفترشون طريقًا ذليلة يطؤها الطغاة في سعيهم إلى العدوّ وصولاً إلى الخيانة كاملة الأركان، وهم بهذا يتخذون دورًا فعليًّا مباشرًا في التجند للطاغية، ويقترفون بأنفسهم ظلمًا لغيرهم من البشر، تمامًا كما يفعل الآن السفلة من مروّجي التطبيع، والمتكسبين بالقدس والمسجد الأقصى، المتزلفين إلى حضرة الطاغية الرديء!

  
الطاغية قد يكون صنيعة العدو ابتداء، وطغاة زماننا جبناء، من النوع الرديء كما سبق قوله، فإن لم يكونوا صنائع العدو، فإنّهم لجبنهم، وانطماس بصائرهم، يتحوّلون سريعًا إلى الخيانة؛ حماية لعروشهم المرفوعة على أعمدة هاوية، وقد اعتادوا منذ زمن بعيد أن يتقرّبوا آناء الليل وأطراف النهار إلى أمريكا بفلسطين، يدفعون الثمن من كيسها، لكن ما الذي يكتسبه الخونة الصغار من حشر أنفسهم بين باعة فلسطين؟ ويضيفون إلى ما يفعله الطغاة المزيد من الظلم، يزوّرون التاريخ، وينفون حقّ أهلها بها، ويشرّعون للغازي نهب الأرض وتزييف المقدّسات، ويقترفون الأكاذيب على أهلها الصامدين فيها؟!

  
الطاغية يبيع في سوق السياسة أمّا هؤلاء الصغار فيستغلّون كل منبر لتحريف الحقائق، وتشويه وعي الناس، وهم في كل الأحوال مجرد عبيد لطغاة تافهين.. الجواب مرّة أخرى.. إن هؤلاء بلا رجولة.. طفيلية زائدة على الجنس البشري.. وفي أزمنة الانحطاط، الانحطاط المكتسب من انحطاط الطغاة، يجدون الحفاوة والمنابر، ولا يحتفي بهم إلا من كان من جنسهم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.