كذاك الطفل بطفولته التي سرقتها الحرب منه، يُطلق لهجات الرجاء العميق لوالده "لا تتركني" وهو يعانق وجهه المسجى بالدماء متوسلاً. يداه البريئتان الغضتان تصالحتا مع الدماء رغماً، ماعاد يرعبه سوى الفقد، ومع ذلك هو يعرف أن الفقدَ حاصل وأن المستقبل ينتظره وحيدًا دون أبيه، يعي ذلك تماما فيدعو الله بدفقاتٍ من الصبر يستند عليها أن "ياالله صبرني يارب" ! وعيون الأطفال حوله أذبلها الحزن، تنظر للجثة والدم يقطر منها في مشهدٍ اعتادته وما سرق منها الحزن!
مشهدٌ من مشاهد عديدة تتبدل شخوصها وألوانها واحدة، تؤجج في النفس صراخًا عاليًا أن: ثوروا واقتتلوا وارسموا حدودكم وافعلوا ما شئتم ولكن دون أن تسقطوا نظام الإنسانية من قلب الطفولة! دون أن تشوهوا الأطفال ببراثن أسلحتكم وصواريخكم وقنابلكم واختلافاتكم وسياساتكم! ما قيمةُ الوطن بأطفالٍ مشلولي القلب والجوارح والمعنى، وهل سيعاشُ من بعد بأنصافِ أرواح؟ كلٌّ يبحث عن مادة في هذه الرّحى، كلٌّ ينادي بالحرية والكرامة، الحلفاء يصفقون ويوجهون ويتصيدون بعض الحصص، المصورون يلتقطون الصور الرابحة، ونحن نندب، ووحدهم أولئك الأطفال المتأرجحون بين نعالِ بهيميّة القتلة يبحثون عن معنىً للحياة بين جثث الفقد!
غداً سيكبر ذاك الطفل والأطفال حوله، ولا تلوموهم إن ثارت نقمتهم بركاناً قتل السلام في هذا العالم! ولا تلوموهم إن كانوا سيرونه أسوَدا، وإن كانت خطاهم متلكئة، لا يستأمنون ولا يثقون، ففضلات الحرب عشعشت في قلوبهم وأجسادهم الغضّة حتى أكلتها، في الوقت الذي كانوا أشد ما يحتاجون فيه إلى عطايا الحب وشذراته، تظللهم وتدفعهم بعنفوانهم وطاقاتهم يشقون بها هذا العالم.
ومن رحم هذا الواقع تزداد الغصة أكثر حين كنتُ في إحدى مدن الأطفال العلمية في أميركا أجول بين فخامة التجسيد العلمي للمفاهيم، وأخرى في إحدى مدن الترفيه السينيمائية بين روعة التجسيد الفني الذي يعيش فيه الطفلُ العالمَ المرئي الذي كان يشاهده في الشاشات واقعًا ملموسًا هو بطله الآن، وأفكار كثيرة غيرها تجعل الكبير قبل الصغير يفرّغ كميات كبيرة من الطاقة السلبية التي راكمتها في نفسه أعباء الحياة اليومية، فأفكّر كم نحتاج حقيقة الآن وأكثر من أي وقتٍ مضى كأصحاب اختصاص ومشاريع كل في مجاله بأن نحوّل تلك المجالات التي تخصصنا فيها إلى مساحات صديقة لأطفالنا، تسألني كيف؟
فأجيبك: شخص متخصص في الموسيقى يسخر تخصصه لتكوين مساحة تدريبية للأطفال المتضررين بدوافع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويجعلها كنواة دعم نفسي لتخلية تلك الفضلات في نفس هذا الطفل وترك مساحة له لينتج شيئًا من هذه الأدوات، شيئًا سيكون تلقائيًا ورويدًا رويدًا من رحم ذاكرته التي مرّ بها، فيترجم تلك الذاكرة بهذه الوسيلة إلى منتج مدرك يكون أشبه بعملية شفط لتلك التراكمات السلبية فيه، أشبه بعملية تنفيس بإبداعِ مُنتج، ومثله في مجال الإعلام بأنواعه المرئي والمسموع والمكتوب والإلكتروني، إلى الأدب والفن والرياضة والطبيخ وسائر التخصصات، نستطيع أن نوظفها جميعًا في مشاريع عملية تبني ما هدمته الظروف السياسية وغيرها في نفوس أطفالنا، ويتنافس فيها أولئك المتنافسون على إعمار "البناء" إبان الحروب إلى إعمار "الإنسان" بمثل هكذا مشاريع عملية تحوَل المحيط بالطفل إلى مساحات صديقة له.
وأن يعي المسؤولون الراقصون على الجراح أنه لا طعم للوطن ولا للرياسة ولا للحرية والكرامة على جثث الآمنين العزّل فبعضًا من الرحمة تكفي! ختامًا لا يسعني إلا أن أقول: رباه.. دفقةً من الحب والسكينة أمطرها على قلب هذا العالم! دفقةً من لَّدُنك باسمك دثّر بها هذا العالم كي لا يجوع بعدها ولا يعرى!