شعار قسم مدونات

عن النصوص والعصافير والأنبياء.. وأشياء أخرى

مدونات - كتابة مكتب عمل كاتب

قرأتُ نصًّا باذخ الجمال لأحد الأشخاص، لدرجة أني تمنيت أن يكون حقيقيًّا، أخذ مني النص، من عواطفي ومشاعري وشغل عقلي، وفكرتُ لوهلة أن أسأل صاحبه عما إذا كان هذا النص حقيقيا أم أنه خيال، ولكني كففت عن السؤال عندما فكرت أن هذا النص تحول إلى حقيقة أخذت مني عندما قرأته، وبهذا أصبح النص حقيقيا جدًّا، حدث وحصل وتحقق، حتى لو لم يكن هذا التحقق إلا في قلبي ونفسي، أفكر في الكتابة كاستمساك بلحظة من تاريخنا الإنساني تحفظها فلا تفلت أو تندثر، فلا يذهب كل شيء سدى، لحظات الحب والجمال والأمومة والغضب والكره والعذاب والتعذيب لا تخلدها إلا النصوص.

  
أن تتحقق فيك الكلمة، في أحلامك ورؤاك العابرة، في مواقفك الحقيقية، أن تنغمس فيها وتنغمس فيك، أن تمتلك لغة أصلية وأصيلة فتعبر كل المعاني من كل مكان إليك، تعبر من عينيك وقلبك وجلدك، تعبر إليك حتى تصطبغ بها، وهذا شيء جليل.
   
في النصوص والكتابة أبطالٌ كلهم أنت، الفتاة ذات الثوب الأحمر، والرجل ذو الجبين الضيق الشرير، والطفل القبيح الذي -وعلى غير العادة- ينفر الناس منه، كلهم أنت، أبناء خيالك، وفتاتك ذات الثوب الأحمر ليست هي نفس فتاتي ذات الثوب الأحمر وهما اللتان خرجتا من كتاب واحد، فتاتي أنا رفعت شعرها الطويل لأعلى، وفتاتك أسدلته، فتاتي لم تضع كحلًا، وفتاتك وضعته، وفستان فتاتي امتلأ بالكسرات، وفستان فتاتك منسدل طويل، هل هما نفس الفتاة؟ اسمًا نعم، فعلًا لا، نقول ونزعم إننا نقرأ ما كُتب لنا، لكن الحقيقة أننا نقرأ أنفسنا وخيالنا، نقرأنا نحن. 

 
ذلك الإنسان المحظوظ الذي يكتب نصًّا جميلًا جدًّا، جميل لدرجة أن يلتصق بخيال القارئ فلا يفارقه، ويتحول من كتابة قلم إلى حقيقة في حياة من قرأها، يفكر بها، ويحلم بها، ويقرر بها، يعيش فيها بوعيه وذاكرته، أو بلا وعي وهي متوارية في ذاكرته، وهذا أعظم..

 

في الكتابة وُهبنا حق الخلق، أن نخلق الأشياء ونقتلها، نميتها ونحييها، على الورق، وفي النفوس، نخلق أشياء تشبهنا أو لا تشبهنا
في الكتابة وُهبنا حق الخلق، أن نخلق الأشياء ونقتلها، نميتها ونحييها، على الورق، وفي النفوس، نخلق أشياء تشبهنا أو لا تشبهنا
  

وإذا كان سعي الإنسان للخلود، كنفحة إلهية حُرم منها، فإنه وُهب الكتابة بدلًا عنها، قدرته أن يكتب شيئًا فيعُمّر أعمارًا فوق عمر صاحبه، نص يقول ما رغب صاحبه أن يقوله، فيظل كلامه يقال أبدًا، حتى لو انقطع الصوت الأصلي وصاحبه، ونص آخر يقول عن صاحبه ما لا يجرؤ على قوله، أو فعله، فيحب هذه ويكره تلك، يضرب هذا ويعطف على ذاك..
 

أن تكتب يعني أن تمتلك صوتا لنفسك، وللآخر، أن تكون نبيًّا ومبشّرًا، فارسًا وبطلًا، خائنًا وزنديقًا، ثم تغلق دفترك وتعود بشريًّا

عندما كتبت رضوى عاشور عن الطنطورية أو ثلاثية غرناطة لم تكن كتابتها كتابة عابرة، بل أحيت وخلقت من جديد بشرا ذهبوا وذهبت مآسيهم وآلامهم.. نسيهم الخلق، فأتت رضوى، خلقتهم، صنعت بيوتهم وأوانيهم، صاغت مشاعرهم وأحزانهم، وألبستهم ما يليق، وكتبت ما أبكاهم وأفرحهم، زوّجتهم وطلّقتهم، هجّرتهم وأسكنتهم من جديد، صنعت الذكرى التي لم تُحفظ كما يليق بألم أصحابها، أصبحت الحقيقة خيالًا وتمثّل أمامنا ما ظنناه مات، فخُلّدَ الألم، والتشريد، حُفظ حق الحزن، وأصبحت الحقوق نفسها محفوظة لأن آلام الأبطال لا بد لها من يقتص لهم، ويصبح الأمر الواقع ليس بأمر واقع تماما، لأن هناك أشخاصا حقيقيين دفعوا ثمنه غاليا..
 

في الكتابة وُهبنا حق الخلق، أن نخلق الأشياء ونقتلها، نميتها ونحييها، على الورق، وفي النفوس، نخلق أشياء تشبهنا أو لا تشبهنا، أشياء نطمح أن نصل إليها، أو أشياء تعاف نفوسنا حتى عن تخيلها، أن نربط ما لا يرتبط ببعضه، لأننا أردنا ذلك، فيكون العصفور دلالة الفرج، والقهوة المسكوبة إثبات مؤكد على فرح لن يتحقق.. نحن كبشر، آلهة صغيرة في أنفسنا، ويداعب كبرياءنا أن نكون آلهة فعلا، فنمارس الكتابة كتمرد على بشريتنا القاصرة..
 
الكتابة تعطي المآسي والآلام والفرح احترامهم الكافي بألا يذهبوا سدى، ألا تكون كغيرها، الحزن كلمة واحدة، لكن حزنك ليس كحزني، ألمه وشكله وكيف نراه مجسدًا، أن يتحول الشعور إلى كتابة نبيلة يعني أن تُحيي المشاعر وتحيلها من كلمات ومعانٍ إلى أشخاص تجلس معك وتنازعك مكانك في غرفة جلوسك..
 
أن تكتب يعني أن تمتلك صوتا لنفسك، وللآخر، أن تكون نبيًّا ومبشّرًا، فارسًا وبطلًا، خائنًا وزنديقًا، ثم تغلق دفترك وتعود بشريًّا مسموحا له "بالغلط".. وهذا أسمى الأماني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.