شعار قسم مدونات

في معركة القدس.. هل يكره الفلسطينيون السعوديين؟

Data collectors sit at screens in new the Global Center for Combatting Extremist Ideology as they wait for a tour by U.S. President Donald Trump and Saudi Arabia's King Salman bin Abdulaziz Al Saud to commence in Riyadh, Saudi Arabia May 21, 2017. REUTERS/Jonathan Ernst

منذ النصف الثاني من هذا العام، على الأقل، تنشط حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، يدّعي أصحبها أنهم سعوديون، تتعمد الإساءة الفاحشة للشعب الفلسطيني، وتدعو للتخلي عن قضيته، وتتّهمه بتلك التهمة الفاجرة المعتادة التي تزعم بيعه أرضه للصهاينة، وفي بعض الحالات يصل بها الأمر إلى درجة نفي القداسة عن المسجد الأقصى، والتسليم بالرواية الصهيونية الاستعمارية عن حقّ الصهاينة التاريخي في فلسطين!

 

يقال، إن لجانًا إلكترونية، اصطُلح عليها بالذباب الإلكتروني، هي التي تتولّى تلك الحملات، وإنّ مستشارًا في الديوان الملكي يتولّى الإشراف عليها، هكذا يُقال، بيد أن شخصيات معروفة شاركت فيها، وعلى نحو بدا، وكأنّها تتقرب للحكم الحالي بالمساهمة في هذه الحملات التي تسيء لأصحابها، وبالضرورة؛ لمن يُتقرب إليه بها.

 

لا تهدف هذه المقالة، إلى مناقشة دعاية تلك اللجان، والمساهمين فيها من شخصيات معروفة، عن دعم السعودية للقضية الفلسطينية ونكران الفلسطينيين "لجميلها"، واتهام الفلسطينيين ببيع أرضهم للصهاينة، والتناقض الضروري -بحسب دعاية ذلك الذباب- بين المصالح السعودية الوطنية وبين دعم القضية الفلسطينية، والزعم بأنّ العرب يحمّلون السعودية كلّ إخفاقاتهم، ويطالبونها بحلّ كلّ مشاكلهم.. إلى آخر هذه الخرافات. كما لا تهدف -هذه المقالة- إلى تحليل أدوات تلك اللجان، وتقنيّاتها، في حملاتها، وهجماتها المضادّة، وما يمكن أن ينبني على ذلك التحليل من تصور عن النفسية التي تصوغ ذلك الخطاب، ولكنّها -أي المقالة- فقط تهدف إلى تفنيد هذا التصوّر الذي يُراد -لأهداف خبيثة بالتأكيد- تعميمه، وإقناع السعوديين به.

 

أمّا وما يجب قوله، خارج الهدف المباشر لهذه المقالة، فهو التأكيد على أنّ هذه الحملات تسيء للسعودية، مهما كان الهدف منها، فحتّى لو كانت ثمّة توجّهات سياسية للحكم الحالي تستند إلى قوى دولية وإقليمية معادية للقضية الفلسطينية، تحتاج إعادة صياغة للوعي العام السعودي، فإنّها سوف تفشل أولاً، وسيكون مردودها عكسيًّا ثانيًا. أمّا عن فشلها، فقد أثبتت كل الحوادث التي تعاقبت على هذه الأمّة، أن الإسلام والقضية الفلسطينية، يشكّلان نموذجين مهيمنين متضافرين على عمق الوعي العربي الإسلامي، لا يمكن محوهما أو استئصالهما، وكلّ ما ظهر بخلاف ذلك لم يكن مُعبّرًا عن الحقيقة أبدًا. وأمّا عن إساءتها -أي حملات الذباب الإلكتروني- للسعودية، فإنّها تُظهر الأخيرة على غير ما تريد، وعلى غير ما ينبغي أن تكونه، فالكبير، لا يتحسّس من أيّ إشادة بغيره، والكبير لا يبرّر تحوّلاته بمواقف غيره.

  

  

نحن نلاحظ أن ثمّة حساسية شديدة لهذه اللجان، ليس فقط في حال الإشادة بدول تَعدُّها من خصومها مثل تركيا أو قطر أو إيران، أو جماعات مثل الإخوان المسلمين، بل حتّى حين الإشادة بالجماهير الأردنية، في موقفها الأخير من قرار ترمب بخصوص القدس، رأينا حساسية شديدة، انعكست في إساءات بالغة للأردن. حسنًا، لا نريد أن نصف ما تدلّ عليه هذه الحساسية، ولكن الكبير بالتأكيد لا يعاني مثل هذه الحساسية.

 

على أي حال.. هل يكره الفلسطينيون السعوديين؟!

نجيب على ذلك بجملة نقاط..

  

أولاً: هل يمكن أن نقول، إنّ السعوديين يكرهون الفلسطينيين، فقط بالاستناد إلى المواقف التي يحاول الذباب الإلكتروني أن يعكسها عن الشعب السعودي؟! بالتأكيد لا، الأصل في السعوديين أنّهم من هذه الأمّة، ويغلب عليهم ما يغلب على عموم العرب والمسلمين، من الاهتمام بالقضايا ذاتها. لكن تقنيات الذباب الإلكتروني، تقوم على الانتقاء والتعميم، بمعنى أنّها تقتنص بعض الآراء والمواقف لأفراد فلسطينيين؛ وتقوم بتعميمها على الشعب الفلسطيني كلّه، بهدف القول إن الفلسطينيين كلّهم، هم ذلك الفرد، أو إنّ ذلك الحدث مُعبّر عنهم كلّهم.

 

بالتأكيد هذا تصوّر خرافي. لا توجد مجموعة بشرية، تُجمع على رؤية واحدة، سوى في قضايا كبرى قليلة، فالفلسطينيون، كما أيّ مجموعة عربية أخرى، في أي جغرافيا عربية أخرى، يختلفون، وينقسمون في مواقفهم وآرائهم وتصوّراتهم، بمعنى لا يوجد شيء يُدعى "شعب فلسطيني يكره السعوديين".. هذه خرافة! المؤكّد -إذن- أنّ الذباب الإلكتروني، لا يفتقر للكفاءة فحسب، ولكنّه متجرّد من أيّ حسّ أخلاقيّ حينما ينزع إلى تشويه شعب كامل، وعزله عن شعب آخر، هو معدن العروبة والإسلام، أي الشعب العربي في الجزيرة العربية.

 

ثانيًا: ما جرى على بعض المجتمعات العربية، لم يجر على الشعب الفلسطيني، فالفلسطيني يفرّق بين الوطن وبين الدولة، ويفرّق بين بلاده وبين سلطته وقياداته وفصائله، فهو لا يُجسّد وطنه في رئيس، أو زعيم، أو قائد، أو فصيل، ولا يَعُدّ نقد أوضاعه، أو قياداته، أو حتى شتمهم، إساءة لوطنه. بينما تعاني بعض المجتمعات العربية العجز عن هذا التفريق، فتحسب أن نقد بعض الفلسطينيين لمواقف حكوماتهم، هو إساءة لأوطانهم. بيد أنّ الإساءة الحقيقية للوطن هي تجسيده في الحاكم، أيًّا كان هذا الحاكم!

 

undefined

 

ثالثًا: الفلسطينيون، المثقّفون والمسيّسون منهم تحديدًا، لا يعانون من أيّ حساسيّة متعلقة بتدخل العرب في مناقشة أوضاعهم، لا مشكلة عند الفلسطيني، في أيّ نقد عربيّ لأوضاع الفلسطينيين وظروفهم وقياداتهم وفصائلهم وسلطتهم، وهذا المبدأ مجرّدًا ليس فيه إساءة لفلسطين! الإساءة قد تكون في الممارسة! فرغم تمركز الفلسطيني حول قضيّته، واعتداده بذاته الوطنية، ووعيه العميق بوجود مسؤولية عربية عامّة عن مأساته، فإنّ شخصيّته مركّبة، بما يجعل للبعدين الإسلامي والعروبي فيها مساحة كبيرة حقيقية، لا تتناقض مع وطنتيه، فهو وإن انتقد أوضاعًا عربية، لهذا البلد أو ذاك، فإنّه ينطلق من طبيعته التي لا تجد حرجًا في أن ينتقده العرب بالشكل نفسه.

  

رابعًا: بالتأكيد، يتمنّى الفلسطينيون أن تُجيّش الجيوش العربية لتحرير فلسطين، لكنّهم في الحقيقة لا يحمّلون السعودية منفردة أيّ قدر من المسؤولية عن مأساتهم، لكنّ الذي يرجونه -في واقع الحال- من السعودية هو ذاته الذي يرجونه من أيّ بلد عربيّ آخر، من قبيل أن ترقى سياساتها إلى حجمها الذي تفتخر به إن تعلّقت بالقضية الفلسطينية، إلا أن الحساسيّة من هذا الرّجاء لا تكاد توجد إلا لدى الذباب الإلكتروني ومن يساهم في حملاته، وهذه هي الإساءة الحقيقية للسعودية، فالكبير لا ينزعج من الرجاء فيه!

  

والحقّ أنّ الفلسطيني غالبًا، بات يرجو مواقف دون ذلك، كأن يكون الحديث عن مساعي التطبيع، وصفقة القرن، والاتصالات السريّة مع "إسرائيل" غير صحيحة، وأن يكفّ الذباب الإلكتروني عن الإساءة له، وعن الاصطفاف في الخندق الصهيوني ضدّه، وأن يجد لقضيته صدى على منابر الحرمين، وفي مواقف الدعاة والمشايخ المشهورين، بحيث يشعر أنهم غير ممنوعين من الحديث في قضيته، لا سيما في الأوقات الحساسة، كما هو الحال الآن.. هذا رجاء بسيط جدًّا ليس فيه أيّ إساءة، ولا ينطوي على أيّ قدر من الكراهية.

  

خامسًا: للأسف، إنّ الذباب الإلكتروني، الذي لم يجد يدًا رادعة تمنعه، بالرغم من أنّ هذه اليد، قادرة على منع أيّ حديث مخالف لسياسة الحكومة من قطر مثلاً، هذا الذباب، هو الذي بدأ حملاته ضدّ الفلسطينيين وقضيتهم، قبل قضية بوّابات القدس شهر (تموز/ يوليو) الماضي، وأثناءها، وقبل معركة القدس الحالية وأثناءها، دون أسباب مفهومة، وهو ما عزّز الاعتقاد بأنّها تأتي في سياق سياسي ما، متعلّق بتوجّهات جديدة للحكم الحالي، وهذا قد يستدعي ردود أفعال من بعض الفلسطينيين.

 

 

المشكلة، أن الحقيقة جرى قلبها، فالحملات بدأها الذباب الإلكتروني، ثم حُمّل بعد ذلك الفلسطينيون كلّهم المسؤولية عن ردود أفعال بعضهم على تلك الحملات، وبالتالي تصوير الفلسطينيين وكأنّهم يكرهون السعوديين، وهذه الحقيقة لا يكفي لتصويرها المثل الشعبي الشائع "ضربني وبكى، سبقني واشتكى"!

 

سادسًا: بصرف النظر عن صحّة كلّ ما يقال، عن صفقة القرن وعلاقة الحكم السعودي الحالي بها، أو حقيقة التطبيع السرّيّ الذي يجري الحديث عنه، فإنّ وزير خارجية السعودية هاجم حماس أكثر من مرّة، وجعل حماس جزءًا من أزمة بلاده مع قطر، وتركي الفيصل هاجم حماس في مؤتمر المعارضة الإيرانية، وسبق له اللقاء مع وزيرة خارجية "إسرائيل" ليفني، وكذا أنور عشقي زار "إسرائيل" وعبّر عن مواقف تطبيعية عدّة مرّات، والصحافة الورقية السعوديّة الصادرة داخل البلد، هاجمت حماس ومقاومة الفلسطينيين عدّة مرّات.

 

دعونا نذكّر، أننا لا نتحدث عن سويسرا، بل عن السعوديّة، التي لا يمكن أن تمرّ مواقف من هذا النوع دون إذن حكومتها، فضلاً عن علمها، إنّ هذه المواقف هي الإساءة الفعلية، والردّ عليها لا يعكس أيّ كراهية!

 

أخي السعودي.. المؤكّد أن الفلسطيني لا يكرهك، ولكن فتّش خلف الذباب الإلكتروني، الذي أساء للسعودية حينما أظهر السعوديين وكأنّهم وحدهم -دون العرب كلّهم- ضدّ الفلسطينيين في أيّ قضية عادلة بالغة الخطورة، كقضية القدس الآن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.