إذا لم يستشعر من بيده السلطة المالية والعسكرية أن المجتمع الذي يحكمه سيتحد في وجهه عند الشعور بالاهتضام لحقوقه، وأنه سيقلب الطاولة عليه، فإنه لا يرتدع عن ظلم. |
فهذه الخصال العظيمة لا يحدث بها عن أعدائه في ذلك الزمن وكل زمن إلا من تشبع بروح الإنصاف، ووطن نفسه على الاعتراف للآخرين بمزاياهم المكتسبة، ورضي لهم خصائصهم الفطرية، ولو لم يكن لهم فيها كسب ينسب لهم الفضل فيها. وإذا أردنا أن نحدد الروم المعهودين عند المسلمين في ذلك الزمن فإنهم هم المذكورين في سورة الروم، حيث يفرح المؤمنون بنصرهم على الوثنيين، الذين غلبوهم في أدنى الأرض أي بلاد فلسطين، وانهم من بعد غلبهم سيغلبون هؤلاء الوثنيين من الفرس، وسبب فرح المؤمنين بنصر الروم هو أنهم أقرب إلى المسلمين من سائر الكفار من غير أهل الكتاب، وقد تحققت تلك النبوة، فيكون المقصود بالروم هي الدولة البزنطية التي كانت تحت حكم هرقل، وهي شاملة لبلاد الشام وما وراءها، ومصر وما حولها. وتمتد إلى الدولة الرومانية، في أوربا وبلاد إفريقيا قبل الفتح الإسلامي.
وكل هذا المحيط خبره عمرو بن العاص، فثبت لديه أن لهؤلاء الأقوام خصائص نفيسة امتدحهم بها، وذلك أن أعظم الأخلاق الحسنة الحلم الذي لا يعرف صاحبه إلا عند التعرض للفتن وأسباب الاستفزاز والغضب، والوقوع في المكاره، والتعرض للمشاق، ثم يأتي بعده خصلة كبيرة وهي سرعة الرجوع إلى الصواب والرزانة العقلية بعد التعرض للمصائب، إذ هي من دلائل جودة العقل وسلامة الفكر، وامتلاك الإرادة القوية، وبعدها سرعة استعادة الهيبة والهجوم بعد الهزيمة حيث يعتبر ذلك من قوة العزم والشجاعة القلبية، وينم عن قوة الإدراك للمسؤولية الحربية، إذ المعهود في غالب الناس أنهم ينكسرون عند الهزيمة وتتضعضع نفوسهم، ويستسلمون للخنوع ، ويتوارون عن الميدان، وإن من أفضل خصال النفوس الأبية رعاية الضعاف والذود عن حياض الحرم البشرية التي تلوذ بالمحيط كالمرأة واليتيم، والضعيف لفقر أو عجز ككبار السن ومن يحتاجون إلى العطف والحنان.
خصلة المنع لجور الملوك، وظلم السلطان هي صمام الأمان للشعوب، وبدونها لا ينتفع المجتمع بالخصال الأخرى كخصلة الحلم وسرعة الإفاقة بعد الهزيمة، ولا يمكن بدونها صيانة حقوق اليتيم والمسكين والضعيف. |
ومن أهم الخصال الدالة على قوة الشكيمة والتعاون على سلامة المجتمع من الحيف والجور، هذه الخصلة التي يحتاج الناس إليها في كل زمن ومكان، لأن الظلم من شيم النفوس، فإذا لم يستشعر من بيده السلطة المالية والعسكرية أن المجتمع الذي يحكمه سيتحد في وجهه عند الشعور بالاهتضام لحقوقه، وأنه سيقلب الطاولة عليه، فإنه لا يرتدع عن ظلم تزينه له شهوته في التسلط والاستبداد، والاستئثار بالخيرات والملذات وسائر الانتفاعات.
وقد ذكرتني هبة الشعوب الأمريكية في وجه قرارات رئيسهم المتسرعة ونهجه العنصري، حيث وجدوا فيها حيفا على الضعاف واللاجئين المتضررين، وتجاوزا صارخا لما هو متعارف عليه في بلادهم من رعاية الحقوق المدنية التي توارثوها في كل عصر يفد إليهم فيه أقوام لحقهم الأذى في بلادهم، فتركوا أهليهم وديارهم، وهاجروا إلى ذلك العالم، فيستقبلون وينصهرون بالتدرج في المجتمع من خلال اكتساب اللغة والخبرة والتقاليد النافعة المشتركة بين البشرية على اختلاف أعراقها وأديانها…
فخصلة المنع لجور الملوك، وظلم السلطان هي صمام الأمان للشعوب، وبدونها لا ينتفع المجتمع بالخصال الأخرى كخصلة الحلم وسرعة الإفاقة بعد الهزيمة، ولا يمكن بدونها صيانة حقوق اليتيم والمسكين والضعيف، فكل ذلك يرجع إليها وبدونها تفقد الأمم حيويتها وتماسكها وتنتهب حقوق الجميع.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.