شعار قسم مدونات

راديو المدن المحتلة..

BKOGS- RADIO

الضوء الوحيد فوق رأسه تماماً، بينما تحتل العتمة أرجاء المحل الضيق المكتظ بالملابس الملقاة في كل مكان.. حديث قدسي يتحدّث عن "رزق ابن آدم" ملصق على يمين المرآة الصغيرة، وصورة على الحائط المقابل مقسومة إلى قسمين؛ تاجر يبيع بالدَّينِ يبدو مهموماً وآخر يبيع نقداً ويبدو مسروراً ما زالت معلقة في مكانها منذ منتصف السبعينات..

ورق جدران بني اللون يكسو الواجهات الأربع، مكوى بخار ثقيل يستريح على حجر أملس، إبريق شاي صغير له ذقن من السناج الأسود، علاّقات ملابس كثيرة تشبه إشارات الاستفهام تحت الضوء، وتشبه حبل الإعدام في العتمة النيئة غير الناضجة تماماً، تتدلى من هذه العلاّقات قمصان قد نفذ فيها الحكم فارتخت أكمامها بعد أن صعد الحلم من ياقاتها.. صوت ماكينة الخياطة العرضي الذي يمشي سريعاً على جسد الثوب يقاطع صوت الراديو الهادئ الذي يسند ظهره على يمين الطاولة ملامساً واجهة الزجاج في وضعية مُثلى لالتقاط البث..
 

نظرت إلى الراديو طويلا.. كان يلفّه بشكل رأسي قطعة قماش سوداء لامعة تحاول ضمّ جنبيه المتعبين، الرباط وحده يوحي أنه أصيب بالصداع لكثرة ما قرأ هزائمنا.

الراديو صديق المهن القديمة، الخيّاطون في الغالب لا يعيرون اهتماماً للشاشات المسطحة ولا للهواتف الذكية، هي عشاق الراديو، يضبطون الموجة على "البي بي سي"، "مونتكارلو" أو الإذاعة الرسمية للدولة، هم يبحثون عن الوقار في الذبذبات، لا يسعون إلى التغيير، حتى لو بثت أغنية حديثة راقصة فإنهم يفضلون إغلاق الجهاز لدقائق على سماعها، إنهم جمهور الأخبار، مغرمون جداً بمواجز الأنباء والنشرات المفصلة ودقات الساعة وعبارة "إلى هنا وصلنا معكم إلى نهاية نشرتنا"، لا يملّون تكرار الخبر كما لا يملون تكرار طي القماش على مسطرة الطاولة.. يمتصّون كل التحليلات بمسامعهم ثم يعيدون تقسيم القماش الذي بين أيديهم على طريقة "سايكس بيكو".. منذ مئة سنة وأوطاننا قطع من قماش، تفصّل، تقصّر، تكفّ، تفكّ، تطوى، تضيق وتتسع حسب الموضة السياسية وعلى مزاج الزبون المستعمر، ولكل وطن خيّاطه الذي ينفّذ ويقبض الثمن.

وأنا أنظر إلى العمّ وهو يرخي نظارته السميكة إلى أسفل أنفه محاولاً تصليح بعض ملابسي.. كان صوت المذيع يتحدّث عن مباحثات "الأستانا".. سألت نفسي ترى كم مدينة سقطت من فم هذا الراديو المعمّر كما تسقط الأسنان؟ كم لقاءات ثنائية عقدت؟ وكم طاولة مفاوضات نصبت؟ وكم بيان للمقاومة تلي؟ منه أعلنت حرب الــ 48 ومنه بث بيان الهزيمة، منه أعلنت حرب الــ 67 ومنه بث بيان الهزيمة، منه نقلت وقائع قمم الجامعة العربية، منه فاحت أخبار حرب لبنان الأهلية، ومن سماعتيه نقل تفاصيل الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج، وضرب بغداد، وملجأ العامرية، منه تابعنا حرب العراق وصمود أم قصر ومنه أحببنا بارودة "أبي منقاش"، وصوت محمد الصحاف، وأول مصطلح للعلوج..
 

وعلى وقع قصّ الأكمام الطويلة، وكفّ أرجل السراويل، تابعنا ثورات الربيع العربي، و"بن علي هرب"، وأناشيد الثورة السورية.. والبراميل المتفجرة، وتدخل روسيا "الشقيقة" في سوريا الغريقة. نظرت إلى الراديو طويلا.. كان يلفّه بشكل رأسي قطعة قماش سوداء لامعة تحاول ضمّ جنبيه المتعبين، الرباط وحده يوحي أنه أصيب بالصداع لكثرة ما قرأ هزائمنا.. وبسبب وضعيته الثابتة، والعمل اليومي، تحط على جسده المعدني الكثير من قطع الخيطان الصغيرة، وفتات العـُرى، وغبار القماش الخشن، من ينظر مطولاً إلى ما تحت سماعتيه وفمه المقفل على "كاسيت" منسي، يحسب زغب الخيوط لحية الكهولة وقد كساها الكلام والقطن وفواصل الوجع..
 

في المخيطة.. عندما يغادر العجوز آخر النهار مكانه، ويطفأ الضوء على قمصانه العارية من أصحابها، ويغلق باب محله في السوق القديم.. ترى كيف يقضي الراديو وقته وحيداً في الليل الطويل؟ هل يخرج أبطاله والسياسيون والمقاومون والقادة والزعماء من "بين الترانزوستورات" والدوائر الكهربائية؟
 

كم هزيمة ما زالت رائحة بارودها بين أسلاكه؟ كم تواطؤ عربي يختبئ خلف مكثفات الصوت الرخيم؟ في الليل الطويل يتمترس الأبطال والزعماء خلف لواقط الاستقبال والإرسال.. ليرووا بطولاتهم وأمجادهم للقمصان المسجّاة في العتمة وللثياب المدلاة على مشجب الانتظار.. يخيطون الوقت بإبرة الانتصار الوهمي.. بينما على الطاولة العليا.. يرقد مقصٌ حاسم، لا يفتح فمه الا على التقسيم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.