شعار قسم مدونات

إلى الحرية مجدداً

طائر
جلستُ ليلتها أقنع رفاق الزنزانة أنك وعند أول خطوة فوق "الأسفلت" خارج هذا السجن ستنسى تلك الحقبة "المريرة" من حياتك، ستمحوها من ذاكرتك، ستقول مجيباً عند سؤال الناس لك: هل رأيت شقاءً قط؟ ستجيب: كلا ما رأيت! في الليلة الأخيرة في غياهب السجن بتّ أبث قناعتي إلى أذهانهم وعقولهم أن السجن مرحلة عابرة لن تخلّد في الذاكرة، وستنسى رفاقك وإخوانك بعد يوم أو قُل بعد أسبوع، فالمهم أنك ستنسى وستنسى وجع التحقيق وألم الزنازين ووحشة القبور باطن الأرض، ولربما لن تستطيع حتى تذكر أسماء رفاقك، فالإنسان نسيّ وللنسيان هو أهل! والحقيقة أني كنت أحاول إقناعهم بما لستُ به مقتنعاً، فما بالي لا أبرح تغادر مخيلتي تلك الأيام والليالي واللحظات التي لعلها بمداد من الوجع خطّت حروفها وتركت بصمتها في أدقّ تفاصيل الحياة المقيّدة بسوار الظلم والقهر.
 
باتت قريباً لحظةٍ كنت أتمناها وبتّ اليوم أخشاها أمام الرجال الذين ما تمنيّت إلا أن يكونون أحراراً بين ذويهم، يسبقوننا بالفرح وهم الذين سبقونا إلى تلك المقابر.

بدا السجن كمحطة ماثلة أمامي، ولعلي أدركت أني لا محالة إليها ذاهب بقدمي! ولعلي كنت أتوقعها في كل لحظة، فكنت أسير إليها مُكرهاً ( كحال الكثيرين ) حيث الخيارات المحدودة، إما الصمت أو الموت قهراً، أو أن تدفن رأسك في التراب، في وقتٍ كان يُدفن فيه أطفال غزة تحت أنقاض منازلهم المدمرة بفعل العدوان الصهيوني وفي وقتٍ كان فيه الأسرى الذين خاضوا بأمعائهم الخاوية معركتهم يسيرون نحو الموت في كرامة، فكان ما كان، التضامن بكلمة وموقف كفيلة بالزجّ بك في دياجير ظلمة قاتمة في مقابر الأحياء .

ولعل الطريق وإن كانت معروفةً نهايته وبدايته، فإن باب السجن لن يظل موصداً أبداً، دورةٌ من الحياة الاعتيادية تتجدد كل صباح، والسجن – بعد اعتقال أو أكثر- سيصبح ذلك المأوى الدائم رغم أنفك، حتى تأتي تلك اللحظات التي تسرقك من كنف المجتمع الأسير إلى المجتمع الحر حيث السجن الأكبر (بامتيازات ) أوفر حظاً!

كانت الأيام والدقائق الأخيرة تمر طويلاً مثقلةً بالخوف والترقبّ والألم، جلسنا سويةً في الليلة الأخيرة ( باحتفالية ) متواضعة، لم أكن أستطيع النظر في عيونهم، أو أن أبادلهم بسمة أو ضحكة لم يمتزج بها الدمع سخياً، فأنا على موعد مع السفر الجديد إلى ديار أخرى غير هذه الديار التي فيها من اللحظات ما هو كفيل بإضرام نار الوفاء والحنين والوجد سنين طوال. مرّت الليلة الأخيرة – كالليالي الأخيرة – طويلة جداً، دهراً من الوجع يكابد الفرح، فأي شعور ذلك الذي ينتابني وأنا أدرك أن الرحيل بات قاب قوسين أو أدنى، باتت قريباً لحظةٍ كنت أتمناها وبتّ اليوم أخشاها أمام الرجال الذين ما تمنيّت إلا أن يكونوا أحراراً بين ذويهم، يسبقوننا بالفرح وهم الذين سبقونا إلى تلك المقابر يحيون فيها روح المجد والأنفة والثبات.

وجاء النهار وبزغت شمس طال غيابها، وجاء الوقت الذي لا مكان فيه للأسلاك أن تحجب أشعة الشمس أو أن تغطي وجه السماء، اليوم نرى الحياة بثغرها الباسم، نرى الأشياء جديدة مختلفة عمّا كانت عليه، لا بد من طيّ تلك الصفحات ونسيانها ولو "مؤقتاً"، اليوم سأسجد سجدة الشكر على باب تلك "المقبرة"، سألوّح بيديّ مودّعاً الصحاب والخلاّن، سأنتقل من باب إلى آخر، والسجان يلفّ معاصمي بالقيد ثم للتفتيش والتدقيق!

إنها رسائل لا تنتهي من ذلك السجان، "لن نتركك تتمتع بالفرح حتى الرمق الأخير"، " حتى اللحظة الأخيرة ستظل أسيراً تخضع لسطوتنا وقوتنا"، وتنطلق البوسطة ورسالتها الأكثر بطشاً وإيلاماً لمن امتطى حديدها وبردها وصولاً إلى نهاية الطريق، هناك ما عاد للقيد مكان "هيا فلترحل مسرعاً من هنا" يهتف أحد الجنود، وأُسرع الخطى نحو المعبر حيث المحطة الأخيرة، حيث شطر الأرض الآخر، فذاك مبتغاي وتلك أحلام آن لها أن تًحال واقعاً، نحو البداية الجديدة حيث الموعد الذي انتظرته طويلاً.

يأتيك أحدهم ويحادثك مثلاً عن حياتك، عن مستقبلك، يحدثك عن نفسه ويحمد الله أنه تزوج ورُزق بطفل ويعمل ويحيا حياته الطبيعية وأنتَ لا تزال تسير خلف (ترّهات) و(دواوين فاضية)!

على أعتاب الحياة، في ظلال الحرية، متناقضات يحياها المجتمع فتنغمس في غمراتها، تروي الأيام منذ لحظة الانبعاث الأولى في فضاء الحرية حكايةَ شعب يرى في الأسير ذلك المناضل الفذّ الذي قدّم سنيّ عمره فداءً لدينه وأرضه ووطنه، وفي صفٍ متقدّم للدفاع عنه، فيصبح يوم الإفراج بمثابة عرس وطني يغمر الأحباب فيه الأسير الطليق بالحب واللطف والدفء، من كل حدب وصوب يُقبلون مهنئين، يشاركونك فرحة العمر أو لربما فرحة الميلاد من بعد المكوث الأخير – طويله والقصير – في باطن الأرض .

ثم تمضي الأيام هنا سريعاً، أكثر هرولةً من تلك الليالي الصعبة غابر الأيام، ثم ما تلبث وتبدأ الدنيا في ساحة السجن الكبير ترفد إليك بوائقها، تذكّرك بالسجن، بالحياة المغيبّة التي ما عشتها إلا قهراً وحرماناً، ثم لا بد أن يعكّر صفو مزاج حريتك متدثّرا بدثار الإرجاف والخوف في الصورة المقابلة لوجه الحب والإنصاف الشعبي الدافئ، فيأتيك مدّعياً محبتك والحرص عليك: " قلنا لك مِن قبل إلزم أهلك وبيتك، لا أحد ينفعك"، ولسانُ آخرٍ محشو بالخيبة والمهانة: "لمن تعملون؟ القضية بيعت منذ زمن، لا أحد يستحق " ينقسم الناس فوق كل انقساماتهم من جديد، ويح ذاكرتي الهشة، فمتى كان لهم في بلادي اتفاق؟! 

في عهد الحرية الممجوجة ببعض المنغصات، ليس بعيداً أن يأتيك أحدهم ولسانه مشرعاً في وجهك يقصد الإساءة أو السخرية، ولربما لا يقصدها، غير أنها تصيب وجدانك، كأن يحادثك مثلاً عن حياتك، عن مستقبلك، يحدثك عن نفسه ويحمد الله أنه تزوج ورُزق بطفل ويعمل ويحيا حياته الطبيعية وأنتَ لا تزال تسير خلف (ترّهات) و(دواوين فاضية)، يشعرك الأخ المحترم بأنك ارتكبت جريمة أو سابقة خطيرة، أو لعله يحمّلك مسؤولية تأخرك، أو ما يسميه هو بضياع المستقبل، ويكأنه لا يرى أمامه احتلالاً، أو لربما يراك مجرماً تستحق أكثر مما جرى لك!

على ضفاف الحرية وقفتُ ألملم شتات فكري، وأحاول جاهداً أن أستعيد نفسي من ضياعها، مع كل وأدٍ للحرية وانبثاق من جديد، لا بد مِن أن تعاود الكرة مرةً وأخرى باحثاً عن حياة جديدة، تلملم فيها ما تبقى من الأحلام والآمال، عن كل شيء يأخذك إلى معالم الاستقرار والبناء، عن ثباتٍ كان يبتغي الجلاد أن يكسره وعن مبدأ أراد أن يروّضه، عن كل شيء يُشعرك بالحياة… بعد أن كان الداخل إلى ذلك العالم مفقوداً وقد أضحى اليوم مولوداً من جديد، مولودٌ يسعى للفرح، إلى العزف على قيثارةٍ يشدو معها طيف المسافرين في قفار الحياة، المغلوبون على أمرهم هناك، المنسيون في باطن الأرض وتحت ترابها ينشدون لحن الأمل وإنهم على موعد مع الصبح والميلاد والحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.