شعار قسم مدونات

"روميو" العرب..

blogs- فقير
في أيام الصيف الطويلة، كان يمرّ من الشارع قبيل الغروب يرتدي "جاكيتاً" طويلاً سرق الزمن لونه الأصلي، يحمل بيديه "جالونين" صغيرين ينوي تعبئتهما بالماء من أحد المحلات في أول المدينة، كان نمطياً جداً إلى الحد الذي لا يرغب بتغيير ساعة الخروج من بيته، أو المحل الذي يزوّده بالماء، أو حتى بتوسيع دائرة الناس الذين يتعامل معهم بحذر ويرد عليهم السلام بابتسامة طفيفة كأصدقاء صامتين.. فهو انتقائي بعلاقاته وانتقائي بنشاطه البشري ولا يخرج من غرفته الضيقة إلا للضرورات لم يكون الجوع أحدها..
 

لم يكن يحفل كثيراً بمفردات الطريق أو وجوه المارين حوله، كان ينصب عينيه على طريقه المستقيم الممتد من بيته إلى أول المدينة حيث صنبور الماء المجاني الذي قد وضعه أحدهم "سبيلاً" لطلاب المدارس وللعطاشى والمسافرين ولظِماء الحب الذي يشتعل في صدور المتكتّمين، الكاظمين، المحترقين بالقصص التي لا يفرّط أصحابها حتى برمادها..
 

كلما مر من أمام بيتنا وقت المساء كان أبي يرسلنا لنعترض طريقه ونضع في يده القليل من المال، يحاول رفضها ما استطاع، يطوي أكفّنا الصغيرة على الورقة النقدية دون أن يتجهّم أو يغضب، وفي محاولات الرفض اللطيف، كان إذا ما نظر إلى أبي الجالس على بعد أمتار من الشارع يومئ له أن يقبلها.. يبتسم -الرجل الغامض- خجلاً ويأخذها على مضض ثم يمضي بطريقه..
 

لقد تزوّجت الحبيبة وتركت أحلامه وخزاً مؤلماً على وسادة الأمنيات.. لم يصدّق ما حدث بسهولة، اضطرب، انزوى، اتخذ غرفة قديمة في آخر الأحياء، اعتزل الناس، وفضّل أن يمشي ما بقي من درب العمر وحيد.

من صفاته الغريبة أيضاً أنه لم يكن ليقبل أكثر من رغيف واحد من صاحب المخبز الذي يطوي حصته من الخبز كلما رآه في حارتنا، رغيف واحد يقسمه على وجباته الثلاث ويكتفي، ومهما كان جائعاً لا يقبل أكثر من الرغيف الأوحد الذي يحضنه إلى صدره ليحس بنفس "العيش" الدافئ في طريق العودة إلى مقر إقامته البارد.. ربما الرغيف هو الصديق الوحيد الذي كان يشاركه أنفاسه في وحدته الموحشة والثقيلة..
 

أذكر قصته التي رواها أبي لبعض الجالسين قربه في ذاك المساء، وأعتقد أن بعض تفاصيل القصة بحاجة إلى ترميم أيضاَ لأنني على ما يبدو نسيت نصفها وتساقطت فواصل سياجها وأسماء أبطالها.. قال أبي لرفاقه: أن هذا الأعزب الكهل كان قد أحب فتاة في المدينة عندما كان شاباً.. ذهب في سبعينيات القرن الماضي ليعمل في بيروت "عتّالاً" علّه يجمع بعض المال الذي يؤهله لأن يدفع المهر وتكاليف الزواج، بقي هناك عدّة سنوات يعمل دون إجازة أو انقطاع أو فتور حالماً بحبيبة ربما لم يبح لها بعشقه أو ربما كان ثمة خيط من الوعد الخفي بينهما، لكنه عندما عاد كانت حكايته تؤول إلى كل النهايات "الرومأساوية" التي قرأناها في زمن الحب البرّي..
 

لقد تزوّجت الحبيبة وتركت أحلامه وخزاً مؤلماً على وسادة الأمنيات.. لم يصدّق ما حدث بسهولة، اضطرب، انزوى، اتخذ غرفة قديمة في آخر الأحياء، اعتزل الناس، وفضّل أن يمشي ما بقي من درب العمر وحيداً، يقال لقد جنّ تماماً، لكّني لم أره كذلك، كان راهباً عميقاً طيباً وحسب.. فقد قبل الخذلان، لكنّه لم يفكّر بالانتقام أبدا، كما لم يرغب في بناء علاقات جديدة مهما كان نوع هذه العلاقات كي لا يصاب بصدمات أكثر إيلاما، يبدو أن رصيد العمر لم يعد يكفي لامتصاصها..
 

عاش عمره كله مسالماً، لم يؤذ أحداً، ولم يزعج أحداً، مكتفياً بشرب كأس الأذى منفرداً.. لم يكن يرغب بالظهور ساعات النهار أبدا كما لم يتحمس لإحياء الذكريات مع من يعرفونه جيداً قبل رحلة بيروت، لذا فقد اقتصر عمره المتبقي على مشوار الغروب اليومي وكأنه يذكر نفسه بالنهاية..
 

في غرفته المعتمة سرير وحيد، تحت وسادته جواز سفره المنتهي منذ أربعين عاماً وبين صفحاته خيط فضي يشير إلى ختم "المغادرة" بيروت، وفي الغرفة أيضاً جرة ماء فخارية قرب الباب، وأغطية كثيرة لصفائح معدنية مذهّبة كان يجمعها في رحلة العودة اليومية، كل الأغطية المذهّبة معلقة في خيط قرب الشباك تحدث رنيناً كلما تسللت نسمة باردة من النافذة، أحد لا يعرف سرّ هذه الأغطية ربما تذكّره بأساور حبيبته التي تركته دون أن ترتدي "حليّ بيروت"..
 

قبل سنتين رحل "روميو العرب" تاركاً خلفه رصيداً هائلاً من الصمت والقطط التي كانت تؤنسه وقت الشتاء والليل الطويل وتتقاسم معه رزق اليوم واعتزال البشر وعتمة العمر.. رحل "روميو العرب" تاركاً خلفه قصة لم يبح لأحد بتفاصيلها كيف بدأت وكيف انتهت.. رحل "روميو العرب" ولم يعرف "الفلنتاين" يوماً ولا أين يقع على روزنامة الأيام.. لكنه عرف الحبّ تقويماً خالداً لا تنتهي أيامه حتى لو سقطت كل أوراقه..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.