شعار قسم مدونات

طفل الهبيط

blogs- يا بابا شيلني
هل رأيتم ذلك الطفل الصغير مسجّىً على الأرض وحيداً مفرداُ، ينادي أباه "شيلني يا بابا".. يخلع قلوبنا ويصْفِق في وجوهنا أبواب الحياة! هل رأيتم كيف أنه لا يبكي من ألم أو فقد ولكن لأنه تُرك وحيداً بين أعمدة الدخان وأصوات النحيب! هل نظرتم إليه ورأيتم طفلكم؟ ابن الأخ أو ابنة العم؟ أو ابن الجيران حتى؟
 

أنا لم أرَ أحداً سواه.. لم أرَ في عينيه سوى أنه يريد أن يتحرك لم يستطع، في لحظات انتقل من جسد كامل يمشي على رجلين إلى حالة من العجز اجتاحته، بدا لثوانٍ معدودة غير مدرك.. حاول النهوض.. كأنه رأى أطرافه بترت لأول مرة حينها.. فاتجه إلى أبيه طالباً العون، وكيف للأب المكلوم أن يُعين.
 

يقولون مات ذلك الصبي.. عبد الباسط كان اسمه. يقولون مات عبد الباسط الآن وارتاح.. ومن ماذا يرتاح طفل في التاسعة من العمر؟ ولماذا نبحث عن راحته في الموت؟ ماذا فعلنا به حتى يكون الفناء هو أفضل احتمالاته؟ أنظر إلى عبد الباسط ولا أرى سوى العجز.. لا ليس عجزه هو، لا أرى سوى يدٍ أريد أن أمدها إليه، تحتضن ما تبقى منه وتربت عليه ولكنها لا تصل، لا أرى سوى صوت يريد أن ينادي عليه، يهدهده ويشدو له الأغنيات علّه ينام نومته الأخيرة في سلام، ولكنه لا يُسمِع..
 

أنظر إليه وأتذكر شقيقه الأصغر، ذلك الذي نظرنا إليه منذ أشهر يجاس على كرسي في المؤخرة، مشدوهاً لا يعرف بعد هل يعيش كابوساً أم أن الحياة ليست ما كان يظن، يحس بشيء يسيل على وجهه فيمسحه.. ينظر إليه ويرى دماً.. لعله هلع من الدّم أو أزعجه تلوث يده، فأسرع ومسحها بالكرسي وعاد إلى ذهوله.
 

لماذا يرتاح طفل كهذا بالموت؟ أسأل نفسي مراراً وتكراراً.. ولكنني أنظر حولي من جديد فأجد الموت حياةً لمن لا حياة له، الموت أصبح الخلاص الذي ينتظرونه. لا ألوم أولئك الذي يفقدون عقولهم من هول ما يشهدون!

هذا الصغير صاحب الأعوام الخمس.. أستحضر صورته أمامي.. أبحث عنها، أحدق بها، فتذكرني هي الأخرى بأخيهم الثالث.. الذي لم يُتم العامين، ملقىً على شاطئ البحر، وجهه إلى الرمال، وظهره إلينا.. في كل مرة أحاول أن أفهم، أحاول أن ضع الأمور في مواضعها، ولكن لا ينبغي علينا أنفهم كل هذا.. لا ليس مطلوباً منّا أن نستوعبه، على عقولنا أن ترفضه، عليها أن تؤكدّ لنا مراراً وتكراراً بأن هذا غير ممكن، غير إنساني، ولكنني أستمع إلى نفسي الآن وأحس بأن هذا الحديث هراء.. أي إنسانية تلك وكل هذا يحدث..
 

ماذا أفعل يا ربّي؟ كيف لا أفقد عقلي؟ كيف أوقف تلك الصور والأصوات؟ الغريق قبل الغرق، الصراخ والعويل والاختناق بالماء، والطفل الصغير لا يعي ما يحدث، لا يدركه، يتعلق بتلابيب أمه ربما؟ يمسك بثيابها، يغرز أصابعه الصغيرة في جسدها، يشهق ليأخذ النفس فيداهمه الماء، يحرق الملح عينيه، لماذا لا يأتيه الموت سريعاً؟ وتتلخص أكبر أمنياتي في أن لا يكون قد صارع بشدة.. أن يكون قد استسلم لم يقاوم طويلاً.. حتى يرتاح..
 

لماذا يرتاح طفل كهذا بالموت؟ أسأل نفسي مراراً وتكراراً.. ولكنني أنظر حولي من جديد فأجد الموت حياةً لمن لا حياة له، الموت أصبح الخلاص الذي ينتظرونه. لا ألوم أولئك الذي يفقدون عقولهم من هول ما يشهدون، ولأولئك الذين يسألون أين الله من كل هذا القهر والظلم، من يستطيع أن يحفظ عليه قلبه وعقله وسط كل هذا الجنون؟!
 

لا تجلس على كرسي في بيتك الدافئ أو مكتبك المكيف وتستغفر الله وتحوقل، تنظر إليّ وتردد: الحمدلله الذي عفانا، فقط لأنني أتحدث عن من يفقدون اتزانهم للحظات أو أيام أو شهور، ثم يعودون أو لا يعودون، لأنهم لم يعيشوا كما أنت حياة تخلو من الموت والدمار والعبثية.. تجلس خلف شاشتك وتردد الآيات والمواعظ كأنك امتلكت غاية اليقين ونزلت منازل الأولياء الصالحين، بينما هؤلاء من "ضعفاء القلوب" يتخبطون في شك وقنوط بين الأشلاء وركام المنازل.
 

كم أتمنى لو تصفع نفسك صفعة يسمعها القاصي والداني حتى تُفيق وتترك هذه العنجهية. أما أنا.. فلم يعد في مقدوري أن أفعل شيئاً سوى أن أدعو الله أن يحفظ علينا وعليهم القلوب والعقول، أن يمدهم بمدد من عنده يجدون فيه السكينة وشيئاً من التسليم. تُسحَب الحياة من عيني وقلبي كلما نظرت إليهم أحس بنفسي تخلو شيئاً فشيئاً حتى يبدو لي التكور في زاوية مظلمة الحلّ الوحيد.
 

لكنني لا أستطيع.. لا يمكنني، وأنا أعرف أن منهم الذين يعيشون المآسي كلها، من ينهض كل صباح ويقرر أن الحياة ستمضي، وهو يعلم أن الموت وشيك.. وأنا التي تجلس هنا تنظر من بعيد.. أريد أن أستسلم؟ لا يَصِح.. ليس من حقّي.. ليس من حقّ أحد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.