شعار قسم مدونات

حلب.. الثأر الذي لن يموت

حلب
هناك، في شارعٍ عُلّقت في وسطه بعض الستائر لتحجب الرؤية عن قناصة النظام الذي كان يتلذذ في اصطياد المارة وكأنه يلعب بإحدى ألعاب الكمبيوتر، كان يقع المنزل الذي كان كل ليلة يضج بالرفاق وتنصت جدرانه إلى نكاتهم وأحاديثهم الشيقة والمملة على حدّ سواء، وقد أصبح كومة من الحجارة. لم يكن زوجي يوسف وأصدقاؤه تلك الليلة فيه، ولكن كانت عائلةٌ من أب وأم وثلاثة أطفال صغار، وأم وطفلها آخرين كلهم قد دفنوا تحت ذاك الركام.

نفس المكان وفي اليوم التالي ذهبت لأصور فيديو من أمام ذلك المبنى المنهار تماماً لأحكي القصة. قمت بإعادة التسجيل عدة مرات لأن يداي كانتا ترتجفان مع الكاميرا فقط من فكرة أن تلك الأجساد ما زالوا عالقين مدفونين خلفي تحت تلك الحجارة! لم يستطع أحد رفعها ولا سحب الجثث إلى قبرِ يليق برحيلها الأخير. على بعد أمتار من هناك وفي الشارع المجاور قبل عدة أيام كان أمام مدخل بيته على الرصيف المقابل، حاول النهوض مستخدماً قدميه المتشظيتان من صاروخ سقط قربه، مسح وجهه بيديه ليتمكن من الرؤية، قلّب كفيه وهو ينظر إليهما ليدرك أن دماء رأس صديقه المتفتت قد غطت وجهه، اخترقت الشظية رأس صديقه لينجو هو من الموت بأعجوبة كما كان دائماً ينجو كل من في هذه المدينة الخرافية.

داخل أسوار مدينتنا المحاصرة كنّا وحدنا أيضاً مشغولون عن أخبار العالم بمذابحنا الجماعية وموتنا الاعتياديّ، مشغولون بلملمة الأشلاء وحفر القبور في الحدائق، وإزاحة بعض الركام من فوق أجسادٍ تحته إن استطعنا.

تمكن من النهوض، ليجد على حافة الرصيف دماغ صديقه الذي توقف عن الكلام فجأة ولم يكمل جملته الأخيرة بعد، وقد أقبلت على الدماغ قطة تنقره وتحاول أن تأكل منه. كم هو مقزز، نعم كم هو مقزز أنه وبينما كانت القطة تأكل بقايا دماغ الشهيد كانت الدول التي تعفنت بها شعارات الحرية والإنسانية تبحث بكل هدوء عن ما يبرر تلك الإبادة الجماعية، وأنه ربما مسّ أولئك البشر جني الإرهاب الذي يبررون به كل مذبحة وكل جريمة، و كانت الأمم المتحدة قلقةٌ أشد القلق من كيفية تبرير طرد الناس من أرضهم دون أن يشعر العالم بقذارة هذه الجريمة، بل ويريدون للعالم أن يشكرهم ويشكر السفاحين إن هم أوقفوا المذبحة ليومين أو ثلاث وسمحوا للناس بالاحتفاظ بأرواحهم أياماً أخرى إضافية، إن هم خرجوا مقابل أرضهم وذكريات سنينهم وكرامتهم.

طوال السنين التي مضت كنا أرقاماً على صفحات التقارير التي كانت تخرج خجلى، وكنا بضع كلمات تظهر على الشريط الإخباري تمحوها ضغطة واحدة في جهاز التحكم، وبنداً في لائحة بنود المؤتمرات التي كانت تفاوض على أرواحنا وتشتري وتبيع بنا -نحن من لا نستحق الحياة- مصالح من يستحقونها. كنا على قنوات الإعلام العالمية تقريراً أقصر من برنامج حواري حول أسرار مشاهير هوليود، أو عن كيفية إعداد فطيرة التفاح الشهية! و كنا أصغر من مشكلة الاحتباس الحراري التي كانت تهدد الإنسانية بينما موتنا الجماعيّ لم يفعل.

أما داخل أسوار مدينتنا المحاصرة فكنّا وحدنا أيضاً مشغولون عن أخبار العالم بمذابحنا الجماعية وموتنا الاعتياديّ، مشغولون بلملمة الأشلاء وحفر القبور في الحدائق، وإزاحة بعض الركام من فوق أجسادٍ تحته إن استطعنا، ورفع بعض السواتر لنؤخر السفاحين من عصابات الأسد والمحتلين الايرانيين والروس عن المذبحة، والذين كانوا يرقصون فرحاً كلما اقترب رصاصهم من جماجمنا، وتعلو ضحكاتهم كلما علت أصوات الأطفال وصرخات النساء تبكي فزعاً.

خرجنا من مدينة دفنا فيها آلافاً من الشهداء، وآخرون لم يدفنوا وبقوا تحت الأنقاض، دفنا أياماً وسنين عشناها بكرامة، لم نرد أن نكون عبيداً للأسد ولن! فأطلق هو وجنوده الشعار "التاريخيّ" "الأسد أو نحرق البلد".

مرت الأيام على المدينة المتعبة ليلاً دون نهار. في الظلام ومع كل صوت انفجار، كانت تهجم صور الشهداء غاضبة دفعة واحدة. و كانت أنات الجرحى ومعتقلون منسيون في مسالخ الأسد تخرج صرخة واحدة يحجبها صوت طائرة روسية يقرر فيها الطيار الهادئ الأعصاب بكل برود أثناء جولته المعتادة من سيموت ومن سيعيش. كانت وجوه الأطفال ترتعب وتصفر دفعة واحدة. كانت الأشلاء تقفز باحثةً عن بعضها، باحثة عن ثأرها، عن موتها الذي لم يمت. و كنا نحن الأحياء الناجون من المحرقة التي ما زالت قائمة حولنا، نمارس الحياة بتفاصيلها العادية وسط كل هذا الموت. كنا نشعل بعض الأخشاب ونذهب إلى البئر في أول الشارع لنجلب الماء، ونغمر في الماء حفنة من الأرز المتبقي منذ أشهر، لنقوم بطهيه عند المساء.

كم هي مرعبةٌ تفاصيل الحياة العادية، وكم كانت تثير البكاء وكم كنا نكرهها ونكره أنفسنا كلما نجونا، فها نحن مجبرون على الحياة التي كانت تنتهك من جلالة هذا الموت المخيّم وتكسر بوقاحتها صمت الشهداء والأشلاء وتطغى من جديد رائحة الأرز والحطب على رائحة الدم المنساب في شوارع المدينة. كنا نسأل أنفسنا كل ليلة هل تستحق الحرية كل هذا الدم؟ ونجيب: وهل تستحق حياة بلا حرية وبلا كرامة وبلا عدل وبلا حق الآلاف من الشهداء والمعتقلين أن نعيشها!

خرجنا من مدينة دفنا فيها آلافاً من الشهداء، وآخرون لم يدفنوا وبقوا تحت الأنقاض، دفنا أياماً وسنين عشناها بكرامة لم نرد أن نكون عبيداً للأسد ولن! فأطلق هو وجنوده الشعار "التاريخيّ" "الأسد أو نحرق البلد" الذي يثير ولا بد التساؤل حول بشرية هؤلاء المجرمين.

وحين عجز الأسد السفاح عن قمع ثورتنا العظيمة التي طالبت بالحرية والكرامة والعدالة على هذه البلاد استعان بكل شياطين الأرض ليقتل شعباً وثورةً لا تموت، بل تكبر وتعظم مع كل شهيد. "لم نندم على الكرامة"، كنا نرددها ونحن نودع مدينتنا المحبوبة للمرة الأخيرة، ونتلو كلمات الوداع الأخيرة على قبور الشهداء، كتبنا كل العبارات التي ضجت بها المظاهرات في شوارع المدينة على جدرانها، أحرقنا الذكريات وحملنا معنا ثأرنا ووصايا الشهداء جميعهم ومضينا.

لا نملك وقتاً للبكاء في هذا العمر القصير، ولا لأن نرثي مدينتنا المغتصبة، تركَنا العالم أمام خيارين، إما المذبحة أو أن نهجر أرضنا بلا عودة، وتركنا أنفسنا أمام خيارين، إما الشهادة على ما مات عليه رفاقنا أو أن ننتقم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.