شعار قسم مدونات

وصوف (٢)

blogs- يبحر
لمّا لامس بخار جوفك، زجاج أحلامك، وطفقت تخط بمساماتك الدافئة أمنياتٍ على البرد، هل سال الأمل متكثفاً؟ أم تشبث بالهشاشة رغم الصقيع المحيط؟ لمّا ملّت وسائدك برد المضاجع، وتقلبك اليائس على صوت عقارب المُضّيْ، وتحديقك الأبدي بسقف الخذلان، هل أطبقت جفنيك عنوةً على القلق، أم دفنت صرخاتك في أغطية الصمت؟
 

لمّا انتفضت من فراشك على إيقاع الحياة، وانتقلت من تبلد السبات إلى فورة اليقظة، ووقفت ترمق ذاتك على الانعكاس، وتُمازِج الألوان بأطيافٍ من الجمال والمحبة والغرور والاحتفاء، هل وافقك الرضى بما استقر عليه النسيج؟ أم أنك تحسست أكثر من مرة انثناءات القماش، لتشعر بالرضى دون ظهور أي اختلاف؟ كم مرةً استفزت جولتك المرايا؟ فخطفت منها نظرة شزراً، على ما يليق من الهيئة، ثم أكملت تغذّ الخطى، نحو الموعد المأمول.
 

هل تأملت أرقام المصعد النازل، وهو يطيل الهبوط؟ وانهمار الأصابع على ضَغَطاتهِ وهو يهم بالصعود؟ واستيقافه المشؤوم بين معارج الغاية؟ ووجَلَك الأزلي من خللٍ في الأداء. ثم لمّا فُتِح على الوصول، خرجت من زنازين الضيق إلى سعة اللقاء.
 

هل ستكفيك من الحياة الرتابة؟ ومِن الهموم الكآبة؟ ومن الحرف القدرة على الصياغة؟ ومن القراءة القدرة على الجدل؟ أم أنك، سوف تأخذ من عيشك أقصاه ومن همومك أعظمها؟

هل عدّلت جلساتك في مواضع الانتظار؟ وامتحنت حنجرتك بشيء من الترنيم؟ وقلبت الحاجات بقلق الصمت، وحدقت في فراغ المقعد المقابل، وسَوّيت من طينِ الخيال الخصيب، بشراً، تعلمه الأسماء وتلقي عليه الأحاديث، ثم يوقظك النادل على وقع الطلب بهدوء؟ هل مضى بك الوقت ثقيلاً على وحدتك؟ عليلاً في حضرته؟ هل أسْكَتَّ رجفة الساقين وقلق القدمين، وعبث الأنامل، واصطكاك الأسنان؟ ثم فضحتك التنهيدة، وباحت بسرّك ما استرقت من النظرات.
 

هل استحالت مرارة آخر القهوة حلاوةً؟ وطعم الماء المحايد مذاقاً، وعينُ الرائي فيك بصيرةً، وعبق المكان المألوف كرنفالاً من العطور، ونقص المقابلِ كمالاً، وتفاصيله استكمالاً، للغزك المفقود؟ هل عدت من يومك ترافقك شمس الغروب؟ وتلقي عليك من لونها المشوب، بحمرة وهج الذكرى، أرتالاً من الابتسامات، وقوافل من الهيامات؟ وأنت في وسط معمعة الحياة، تحيطك فقاعات من الخيالات، ما تلبث أن تنفجر حتى تدخل في أخرى؟ ثم تلقي بذاتك على سريرك القارب؟ وتجدف في بحرك المغزول أحاديثَ وتجارب، وتتنقل في بصرك بين الجوانب.
 

هل ماج بك البحر على خوف من القادم، واستعصمت بشراعك على وجلٍ من العاصفة، وآثرت إلقاء المرساة في شاطئ من الأمان، وعاد غيرك بكنزه من المرجان، يحمله شراع مكسور ومجذاف معلول. هل قرضت شفاهك على نَدَم التردد، وأعتصرت خواءك على عجز الإقدام، ووبخت فيك الحرص العليل، والكمال المستحيل؟
 

هل ركنت إلى دعاء القول، ورميت استعداد الفعل؟ ثم انتظرت المعجزة الغائبة، والوحي المنقطع. ولمّا استحضرت التجارب، وجدت أن الإقدام هو السيد، والخوض هو المَولِد؟ وأنه لا حضور لعاشق متبلد، ولا فارس متردد، ولا سيّدٍ مدعِ التسيّد.
 

هل خُضتّ النهر دون ضفة مقابلة؟ واكتفيت من الخوض بالتجربة، وأَلقيت بذي نونك في بطن الحوت، ثم ناجيت في الظلمات، فأُلقيت على ساحل الوصول؟ هل ذهبت مُغاضِبا دون تعقيبٍ؟ لمّا استحال حلمك على التحقيق، هل يأست من قليل نفسِك الذي آمن معك؟ أم أنك ألقيت بدسرك والألواح في القفار البعيدة، واستعنت بالهمة على بناء الفُلْك، وانتظرت بيقين فيض الرحمة، فإذا تَنّور آمالك يفيض من تحتك وجودي سفينتك ينتظر الرسو، وأزواج حياتك تثمر وجوداً ولا عاصم من خذلانك ذاتك ولو آويت لجبلٍ من الأعذار.
 

ماذا لو أُلْقيتَ في يمٍ من المجهول؟ وتلقفتك فراعنة من المتربصين، ووكزت بيدك مستصرخ الأمس؟ هل ستبحث عن مَدْيَن خلاصك، وتطأ طورَ رسالتك، أم ستكتفي من القصر بالعيش المضمون، وتُعبّد آفاقك كما عُبّد بنو إسرائيل؟
 

هل ستكفيك من الحياة الرتابة؟ ومِن الهموم الكآبة؟ ومن الحرف القدرة على الصياغة؟ ومن القراءة القدرة على الجدل؟ أم أنك، سوف تأخذ من عيشك أقصاه ومن همومك أعظمها، ومن حرفك أصدقه ومن جدلك أَفْعَله، ثم تعود لنا من الموصوف، بوصفٍ، يفوق الوصوف؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.