شعار قسم مدونات

الذين لا يعرفهم عمر!

blogs - hourse

لقد كانت جيوش المسلمين تخرج للغزو والجهاد، في آلاف مؤلفة، ولا تذكر لنا كتب التاريخ من تلك الآلاف، إلا القادة والأمراء وأهل الرأي، فأين البقية الباقية الذين ودعوا زوجاتهم وأمهاتهم، وخرجوا في الجحافل يعلوهم الغبار، وتحيطهم السيوف والنبال، ينشرون النور، ويوطدون لممالك الإسلام، ويصنعون المجد الذي تغنى به الشعراء، ودَونه الكُتَّاب والمؤرخون، وتفاخر به الأمراء، واهتزت له جنبات المدن والحصون.

يقف الواحد من هؤلاء في الميدان، آخذا بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغبرِّة قدماه، لا يبالي، إن كان في السّاقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إن استأذن لم يؤذن له! وإن شفع لم يُشفَّع، حتى يُحَنِي الأرض بدمه أو يعود وبيديه الظفر. إن وقفة مهمة نحتاجها لإعادة النظر في ذواتنا والنظر إلى هؤلاء الأبطال المجهولين، الذين فنوا عبر التاريخ، وهم يسطرون أعظم الملاحم، ويقدمون أكبر التضحيات، ولولاهم لما قامت كل هذه الحضارات، ولا انتشر الإسلام كل هذا الانتشار.

لحظة تاريخية تلك التي ظهر فيها مؤمن آل فرعون. جاء هذا "الرجل" ليشهد لرسل الحق بصدق دعواهم، ويقيم الحُجة على المكذبين المكابرين، ويدفع ضريبة ذلك قتلا عاجلا.

يذكر ابن كثير في تاريخه قصة مؤثرة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، "فبينما كانت رحى معركة نهاوند تدور على أرض الفرس بقيادة النعمان بن مقرن، كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه بالمدينة المنورة يدعو الله وينتظر مثل صيحة الحُبلى، حتى كتب إليه حذيفة بن اليمان بالفتحِ مع رجل من المسلمين، فلما قدم عليه قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل فيه الشرك وأهله قال عمر: النعمان بعثك؟ قال: احتسب النعمان يا أمير المؤمنين فبكى عمر واسترجع ثم قال: ومن ويحك؟، فقال: فُلان وفُلان وفلان. حتى عد أناسا كثيرين، ثم قال: وآخرين لا تعرفهم يا أمير المؤمنين! فجعل عمر يبكي ويقول: وما ضرهم ألا يعرفهم عمر؟ ولكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟! ويحَ أمِّ عمر! 

ليس هذا وحسب؛ فالقرآن أيضا زاخر بالأمثلة الدالة على عظمة أدوار "الجنود المجهولون" الذين لا يعرفهم عمر ولا أبو بكر، فهو يحدثنا عن مؤمن آل فرعون (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِاالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ؟). سورة غافر – الآية 28. ويحدثنا عن رجل آخر من بني إسرائيل قدم لموسى عليه السلام، "معلومة استخباراتية" في غاية الأهمية، وفي لحظة فارقة (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ). سورة القصص- الآية 20. 

وجاء رجل!
ويحدثنا عن نموذج آخر في قصة "أصحاب القرية" التي جاءها المرسلون، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ). سورة يس الآية 20. لقد أثار انتباهي هذا الرجل المجهول، القادم من أقصى المدينة، إلى نادي القوم المكذبين، ليدلي بشهادته، ويعبر رأيه ومبادئه، رغم خطورة الموقف وطُغيان الخصوم، ومعرفة العقوبة. أثار انتباهي هذا التنكير، والإهمال لاسم "الجندي المجهول" الذي ظهر في هذا الموقف الصعب، والظرف الحرج، هذا الموقف الشبيه باللحظة التاريخية التي ظهر فيها مؤمن آل فرعون. جاء هذا "الرجل" ليشهد لرسل الحق بصدق دعواهم، ويقيم الحُجة على المكذبين المكابرين، ويدفع ضريبة ذلك قتلا عاجلا (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِيينَ) يس الآية 26/27. 

إن هذه المواقف العظيمة الخالدة التي خلدها القرآن مع إهمال ذكر أسماء أصحابها، تعتبر إشادة عظيمة، وتكريما كبيرا لدور "الجنود المجهولين" الذين يقدمون تضحياتهم من غير رغبة في مغنم ولا مكسب، ولا يبغون من ورائها حظا دنيويا ولا ينتظرون من أحد جزاء ولا شكورا. وهي أيضا ترسيخ لِخُلُقِ نُكرانِ الذات في سبيل المبادئ، والتضحية بالمصالح الآنية من أجل الحق والعدل، دون السعي وراء شهرة أو ذكر، فبأمثال هؤلاء تَنْتَصِرُ الدعوات والرسالات، وتقوم الدول والحضارات، ويُمَكَّنُ للحق والعدل في الأرض.

حاجة متجددة
يقولون: "إن الثورة يفجرها المظلومون، ويشعلها الأبطال، ويموت فيها الفقراء والمستضعفون.. ويستفيد منها الجبناء والانتهازيون"! واليوم في معارك الأمة الكبرى، الممتدة على طول ساحات الألم والظلم والدم، والمتعددة بتعدد ميادينها الكبيرة الثائرة، أرى تجسيدا لهذه المقولة أو قريبا من ذلك. فكثيرا ما أفكر في حق ومصير أولئك "المجهولين"، الذين يبذلون كل ما يملكون، ويقدمون أعظم ما يستطيعون، ويسطرون قصصا حافلة بالمأساة والعبرة، ولكنهم "مجهولون"، تسحقهم آلة الحرب، وتطحنهم مطاحن الصراع، وتَبْتَلعُهم المقابر الجماعية، فلا يذكرهم ذاكر، ولا يزورهم زائر، ولا يشكرهم شاكر. منسيون على هامش الأحداث، مفقودون في ثقوب التاريخ السوداء، رغم أنَّ أشلاءَهم خطَّت الخرائط، وأن عظامهم منعت تقدم المحتل، وأن صدورهم كانت الدِّرعَ الواقي لأولئك الذين نجوا ليتحدثوا في شاشات الإعلام عن بطولات المعارك!.

"نحن بحاجة إلى زعماء بلا مجد وبلا شهرة وبلا بريق، في حاجة إلى جنود مجهولين، في حاجة إلى فدائيين حقيقيين لا يعنيهم أن تصفق لهم الجماهير، ولا يعنيهم أن تكون أسماؤهم على كل لسان وصورهم في كل مكان".

هؤلاء نموذج عظيم للجنود الأخفياء، الذين يجب أن نفكر فيهم مرارا، وأن نبحث عن سيرهم بين حطام المدن، وأن نقرأ سطورهم المنقوشة على بوابات الخلود، وأن نظل أوفياء لذكراهم ولتضحياتهم، وأن نتلمس القدوة فيهم، فهم أولى بالذكر والاحتفاء والتكريم. ولا يضر هؤلاء العظماء، جهل الناس بهم بشيء، إذ الذي ابتلاهم وأكرمهم بالشهادة يعرفهم. إن حاجة الأمة إلى أمثال هؤلاء هي حاجة متجددة بتجدد المعارك، ومتعددة بتعدد الساحات، فهم وقود الثورات، وطلائع الانتفاضات، وكتلة الأمة الحرجة، التي تتحرك في أوقات الشدة، ومحطات التاريخ الفاصلة، فتصنع الملاحم وترفع راية النصر. 

وحاجتها إليهم في النخبة والقيادة أكبر وأعظم يقول سيد قطب: "نحن بحاجة إلى زعماء بلا مجد وبلا شهرة وبلا بريق، في حاجة إلى جنود مجهولين، في حاجة إلى فدائيين حقيقيين لا يعنيهم أن تصفق لهم الجماهير، ولا يعنيهم أن تكون أسماؤهم على كل لسان وصورهم في كل مكان". إن صناع التاريخ، ليسوا هؤلاء الذين يرفلون في الجوائز والحلل والمكافآت، وقد وصلوا لها عبر امتطاء قضايا أبناء جلدتهم الذين يعيشون في المنافي والمخيمات! 
 

إن صناع التاريخ الحقيقيين هم أولئك المجهولون المتوارون عن الأنظار، الذين يعملون بصمت، ويعطون بسخاء، لا يعرفهم أحد سوى قضاياهم وأعمالهم الزكية، حتى إذا ماتوا عرفهم الجميع، واهتزت لهم الأوطان، وشهدت بعظيم تضحياتهم وجميل عطائهم،أولئك هم العظماء حقا.. ولو لم يعرفهم أحد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.