شعار قسم مدونات

الحياة على الهامش

blogs- الحياة علىالهامش
رجل ممتلئ – وممتلئ في العربية لا تعني سمين ولكن عنده بضع أرطال زائدة – يتحدث عن حياته الافتراضية على الإنترنت فيقول بأن أكثر ما هو مدهش حولها هو أنك تستطيع أن تختار تاريخ ميلادك، وشكلك، ومهاراتك، وأصدقاءك، وعملك، والمكان الذي تعيش فيه، والأماكن التي تزورها، أي كل شيء يريده في هذه الحياة يمكن له أن يحققه هناك. دفعني هذا الرجل وغيره كثيرون إلى التساؤل حول السبب الذي يدفعهم للّجوء إلى مثل هذه العوالم الافتراضية لكي ينالوا ما لا يستطيعون تحقيقه في الحياة الفعلية.
 

في الواقع ولكوني دائماً ما أميل إلى نقد الإنسان أولاً فقد تبادر إلى ذهني ابتداءً أنها شخصيات ضعيفة لا شك، فهو يختار على الشبكة أن يكون شاباً وسيماً بعضلات بارزة وشعر أشقر مصفف، بينما هو في الواقع يجلس أمام شاشة الحاسوب لساعات يأكل ويشرب ويسيء إلى جسده على الرغم من أنه لم يصل بعد إلى مرحلة متقدمة من السمنة، فشيء من التمارين الرياضية وبعض التعديلات على الحمية الغذائية كافية لتحقيق تلك الصورة التي يريدها في الواقع. ثم إنه بأفعاله هذه وانعزاله عن الناس منع نفسه من الحصول على أصدقاء "على المقاس" كما يسميهم، كؤلائك الموجودين في عالمه الافتراضي، وهو الذي يقتل مهاراته عندما يتجاهلها ويقضي وقته في هذا العالم الافتراضي ليعيش حياة موازية.. إلى آخر ما جاء به من أسباب.

أن نبحث عن علاقات ليس فيها تطبع ولا تآلف فهذا من المستحيلات، حتى مع البهائم. فلماذا نتوقعها من البشر؟ بل الأحرى بنا أن نسأل لماذا نرغب فيها؟ العلاقات الفاشلة هي العلاقات التي لا يبذل فيها أحد الطرفين أو كلامها جهداً.

ولكن فيما بعد صادفت موقفاً إنسانياً دنيئاً، جعلني أعيد التفكير في نظرة الناس إلى العوالم الافتراضية، وأعيد النظر في حالة هذه الشخصية وغيرها.. فليست القضية قضية ضعف في الشخصية فقط، أو على الأقل ليس هذا هو السبب الوحيد، إن الموضوع يتشعب إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير. نحن كبشر نميل إلى العلاقات الإنسانية الصافية بطبعنا، نريد أولئك الذي يتقبلوننا كما نحن دون أن يطلقوا الأحكام حول أصواتنا وأشكالنا وتصرفاتنا ورغباتنا وما نحب وما نكره، نريد أن نكون في محيط يتقبلنا بالصورة التي نحن عليها..

ولكننا في أحيان كثيرة نخفق في إيجاد ذلك المحيط، أو نخفق في أن نحقق أولاً ما نريده لأنفسنا، في تعاملاتنا مع الأشخاص من حولنا غالباً ما يسبق الشك عندنا الثقة، ويسبق التكذيب التصديق، ويسبق حسن الظن سوء الظن، وتسبق الصراحة المواربة والنفاق، إلى آخر ذلك من سوء النوايا، وندخل في علاقات مع البشر على هذه الأسس.
 

نحن نرضع من حليب أمهاتنا الشك في الآخرين، لا تلعب مع ابن الجيران فهو قذر، لا تتحدثي إلى هذه الفتاة فهي قليلة الأدب، لا تساعد زميلك في الصف حتى لا يتفوق عليك، لا تتعامل مع الفقراء في الشارع لعلهم مرضى وسوف ينقلون إليك عدوىً ما.. لقد غُرس في نفوسنا نوع من اللاإنسانية، نوع من الشيطنة في الحقيقة، شيطنة البشر من حولنا، إننا نبدأ الآخرين بسوء النوايا، فتتم معاملتنا بسوء النوايا، ولكننا لا ننظر إلى ما نفعل، نلاحظ فقط ما يفعله الآخرون بنا، لهذا تكثر عبارات الشكوى التي تتساءل عن السبب وراء اجتماع البشرية كلها ضد هذا الإنسان الوحيد البريء.
 

الجارة لا تخبر جارتها بموعد زواج ابنتها إلا قبلها بساعات خشية الحسد، والأخيرة عندما تسمع الخبر تحسبن وتحوقل وتعترض على زواج تلك الفتاة التي هي أقل من ابنتها جمالاً وأسوأ خلقاً.. وهكذا تدور الشيطنة في دائرة مغلقة. ويختار الجميع أن يتفادى الجميع بقدر ما يستطيع، و نتوهم أننا نعيش في وسط حارة أو حي أو مجتمع ونحن في الواقع لا نشتَم سوى رائحة المجارير التي طفحت بسبب رداءة نظام الصرف.
 

بعد أن يترسب كل ذلك في نفس المرء وبعد عدد من المواقف غير المشرفة التي قد يتعرض لها من قبل معارفه وأصدقائه يقرر ببساطة أن يعيش على هامش الحياة، وليست قضية الحياة الافتراضية سوى نوع من أنواع الحياة على الهامش، على اختلاف درجاتها، سواءً ذلك الذي يقضي الوقت على التويتر أو الفيسبوك أو أو.. ومجمل تعامله مع أناس لا يعرفهم في الواقع، ويجد فيهم ما يفتقده في البشر الحقيقيين من حوله، من صدق المشاعر والوفاء، والسؤال عند الغياب، وإهداءات الصور والكلمات والأغنيات، فيعتقد أن الناس في العالم الافتراضي هم غير الناس في العالم الحقيقي، دون أن يدرك أن هؤلاء هم هؤلاء، ولكن ما اختلف هو السياق فقط، البيئة التي تخرج الجميل هنا وتخرج القبيح هنا، لماذا؟ لأنك عندما لا ترتبط بعلاقة حقيقة مع من هو أمامك فقد أزلت من المعادلة المؤثر الأكبر: المادية.
 

لقد أصبحنا أضعف من أن نحب الناس من حولنا، إن النفوس الضعيفة وحدها غير قادرة على الحب وعلى تجاوز الجروح والأزمات، لأنها ببساطة غير قادرة على تحمل ما يتبع هذا الحب للناس من صبر وعطاء.

لماذا المادية؟ لأنك ما أن تضعها أمام عينيك حتى تبدأ بإجراء حساباتك، كم من الوقت سيضيع مع هذا الشخص؟ هل سيطلب من خدمة ما؟ هل سأضطر لأن أقدم له هدية في المناسبة الفلانية؟ هل ستكلفني رؤيتها مصاريف إضافية؟ هل ستطلب منّي أن أستمع إلى مشاكلها دون ضجر أو تذمر ثم أقدم لها النصح؟ نحن لا نريد كل ذلك.. لا نريد أن نبذل جهداً مع أنفسنا أو الآخرين.
 

أصبحنا نكرر طوال الوقت أن العلاقات الصعبة هي علاقات فاشلة فلنخرج منها! والحقيقة أن العلاقات كلها صعبة وتحتاج إلى جهد. ومثلما أننا نريد من يتحملنا ويلبي طلباتنا كذلك يجب أن نقدم للآخرين، أما أن نبحث عن علاقات ليس فيها تطبع ولا تآلف فهذا من المستحيلات، حتى مع البهائم. فلماذا نتوقعها من البشر؟ بل الأحرى بنا أن نسأل لماذا نرغب فيها؟ العلاقات الفاشلة هي العلاقات التي لا يبذل فيها أحد الطرفين أو كلامها جهداً، أما انتهاء العلاقات التي تأتي بعد استنفاذ الوسائل فهو علامة على نجاح، نجاح مردّه إلى أن الأطراف وجدت المخرج الصحيح بعد طرق كل الأبواب.
 

أخيراً.. نحن نهرب من مواجهة الحياة ونختار أن نعيش على الهامش، لأننا غير قادرين على التوقف عن شيطنة أنفسنا وشيطنة العالم من حولنا، لأننا غير قادرين على التفوق على الكبر في ذواتنا حتى نحب بلا مصالح، لقد أصبح الحب غير المقيد مذلة في زمننا هذا، والود غير المشروط بعائد غباءً وسذاجة، لقد أصبحنا أضعف من أن نحب الناس من حولنا، إن النفوس الضعيفة وحدها غير قادرة على الحب وعلى تجاوز الجروح والأزمات، لأنها ببساطة غير قادرة على تحمل ما يتبع هذا الحب للناس من صبر وعطاء.
 

ليس لأحد أن يلوم من يبحث عن الطريق السهل لكي يحقق ذاته ويجد القبول من الآخرين، كل إنسان في نهاية الأمر له حرية الاختيار في كيفية الحياة، ولكن القضية الفاصلة هنا هي أننا لن نتوقف عندما نموت.. هذه الحياة ليست هي النهاية.. أتساءل من سيحاسب على أفعاله في مرحلة ما بعد الحياة الدنيا.. أنت أم الأفاتار (الشخصية الافتراضية) خاصتك؟؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.