شعار قسم مدونات

عن وعد أقطعه لنفسي بعدم قراءة تقارير التعذيب

blogs - jail

لم أسمع عن التعذيب قبل أن أقع بالصدفة على كتاب صغير في غرفة جانبية من بيتنا القديم، عنوانه على ما أذكر "الخيام، شهادات معتقلين سابقين". الغرفة التي تبقى شبابيكها مغلقة، حوت أثاثاً مهملاً، واسطوانات وثياباً وأقمشة وأحذية قديمة ولكن عزيزة على قلب أمي وجدتي. وإلى ذلك، كان الحيز الأكبر محجوزاً للكتب وكانت كثيرة. توزع بعضها على رفوف جانبية مؤقتة، وأخرى انتظرت طويلاً في صناديق خشب ريثما تكتمل المكتبة في بيتنا الجديد.

 

كنت كلما مللت أو ضجرت في بيت القرية ذاك أدخل الى الغرفة ولا أخرج إلا وقد انتصف النهار أو شارف على الانتهاء. وذات يوم، فيما أنا أقلب تلك الصناديق وقعت على كتيب صغير أسود، كتب عليه بخط أحمر عريض "الخيام" ورسم تحته بالأبيض خيالات أشخاص مكبلين، ومعصوبي الأعين. أذكر أنني أمعنت النظر في ذلك الغلاف ولم افهم منه شيئاً.

 

كلما صدر تقرير حقوقي جديد يوثق التعذيب أعد نفسي ألا أقرأه، وأتمنى أن يصل إلى أيدي هؤلاء المشككين بصحة ما يرتكب من حولهم، وأن يمتلكوا جرأة المعرفة والمكاشفة

لم تردني الصورة إلى أي مخزون معرفي سابق على رغم إني كنت قد قاربت الثانية عشرة من عمري أو أكثر بقليل. لم أجرؤ على فتح الصفحات، ولكني ذهبت بالكتاب وسألت والديً عنه، لأعلم بالصدفة ان أمي حاولت إبعاده عن متناولي كما يبعد اليوم بعض الأهل عن أبنائهم مشاهد العنف والجنس في التلفزيون وعلى شبكة الانترنت. لكن طوق الحماية انكسر سريعاً، وتحولت تلك الشهادات الشخصية الى لحظة مؤسسة في وعيي.

 

رحت أقرأ عن صنوف التعذيب والإذلال والقهر، وكلما قلبت صفحة أروح أتخيلها مشهدياً في بالي. فأغمض عيني وأرسمها صوراً بألوان قليلة، كما هو الوصف الدقيق. رمادي، أو معتم، أو بني. ثم أعود الى جدول المعتقلين وأمعن النظر في تواريخ ميلادهم وقد قاربت أعمار بعضهم عمري آنذاك. فأتخيل نفسي في مكانهم، أكابد وأكابر، حتى أصابتني حالة نفسية سيئة، وبت كثيرة الارق والكوابيس، والأسوء تعلقي المرضي بروايات أشخاص جمعها كتاب لا يتجاوز ربما 100 صفحة ومكتوب بلغة ركيكة ونضالية مبالغة.

 

ذات يوم عدت من المدرسة ولم أجد الكتاب حيث تركته على الطاولة. علمت إن أمي ابعدته مرة جديدة عني، فتواطأت معها بالسكوت وغض النظر، ورحت أبحث عنه بنفسي. وإذ وجدته في الغرفة إياها تحت اكوام كتب وأغراض مهملة، عدت إلى قراءته بالسر، كمن يقرأ روايات عاطفية ممنوعة. رحت أكرر مطالعة الفقرات التي تتحدث عن التعذيب وأتخيل أحداثها، وأنمي غضباً وكرهاً وشعوراً بالذنب لا أعرف مصدره حقيقة. وصرت أحياناً أترقب نهايات سعيدة، أو تغيير في مسار الاحداث أو تسلسل ما في حياة الشخصيات، فلا أجد إلا أبواب زنزانات تقفل على أصحابها، وفقدان أثر من يخرج.

 

علمت لاحقاً إن ما أصبت به هو بعض مما يسمى "الصدمة بالاستعارة"، أي أن يعيش شخص آثار صدمة نفسية لم يتعرض لها شخصياً ولكنه تماهى مع صاحبها لدرجة قد تقارب معايشتها فعلياً. هكذا تحولت مثلاً كل وصلات الكهرباء في البيت الى مصدر رعب رافقني طويلاً، إذ يحيلني لا شعورياً إلى ذلك الوصف الدقيق من جلسات التعذيب بالكهرباء. علمت أيضاً إن عدم احاطتي بأي معرفة سابقة عن احتمالات تعرض الناس للأذى المجاني، لم يمنحني أي حصانة حيال تلك المعرفة المباغتة، فوقعت علي روايات الأشخاص وما كابدوه من ألم وشر مطلق، وقع الصاعقة.

 

وبقي في بالي طويلاً أيضاً إن إسرائيل هي مصدر ذلك الشر ومصنعه الوحيد. هي التي قتلت، وهجرت، واعتقلت، وعذبت، واغتصبت. ثم جاءت صدمتي الثانية حين اكتشفت إن الاشرار موزعون بالتساوي بيننا. وإن معتقلات كثيرة يحدث فيها يومياً ما قرأت عنه ذات يوم بريء، لا بل إن معتقل "الخيام" نفسه أدير بأيدي لبنانية كما تدار اليوم آلات التعذيب بأيد إخوة أعداء.

 

ثم لاحقاً، هالني أكثر أن يقف كثيرون ممن حولي، ضد جلاد ومع جلاد آخر لا لشيء إلا لاختلاف الضحية.

 

اليوم، كلما صدر تقرير حقوقي جديد يوثق التعذيب أعد نفسي ألا أقرأه، وأتمنى أن يصل الى أيدي هؤلاء المشككين بصحة ما يرتكب من حولهم، وأن يمتلكوا جرأة المعرفة والمكاشفة. بالامس عندما وصلني تقرير "امنيستي" عن سجن صيدنايا قلت أنني اكتفيت. بت أعرف أكثر مما يجب عن صنوف التعذيب والألم والظلم. ذاك أنني مع كل تقرير، استعيد اللحظات الاولى لانكشاف معنى الشر والظلم، في تلك الغرفة من بيتنا القديم. يحضرني طعم مرارة وخوف شديد، وأقول أنني اكتفيت.

مع كل تقرير جديد، يقفز بي الزمن بلا رحمة إلى تلك الغرفة المظلمة من بيتنا القديم، فأعود طفلة مصدومة باكتشاف الشر

وجاءت المهنة لتضعني وجهاً لوجه مع جلادين وضحايا على السواء. عملت معهم، ووثقت شهاداتهم الكثيرة وكتمت غضبي وكرهي وحقدي عليهم. لن اقرأ التقرير رحت أكرر لنفسي، وللمفاجأة وجدت عددا من الزملاء والاصدقاء وقد اتخذوا قراراً مشابهاً… لكني لم أصمد.

 

قرأت، وقرأت ورحت أعيد القراءة، وأتمعن مرة أخرى بالتفاصيل، وأتخيل تلك الاجساد الممزقة، وتلك الحناجر الممنوعة من الصراخ وإصدار اي صوت يفرج بعض الالم. أعلم أن كثيرين ممن وعدوا أنفسهم بعدم قراءة التقرير، لم يصمدوا بدورهم. قرأوا ما باتوا يعرفونه ويحفظونه عن ظهر قلب، فيما الآخرون هانئون في جهلهم. هؤلاء، الذين توقف فيهم الزمن عند جلاد واحد، وقرروا أن يتعاموا عن جلادين آخرين.
 

أما، أنا، ومع كل تقرير جديد، يقفز بي الزمن بلا رحمة الى تلك الغرفة المظلمة من بيتنا القديم، فأعود طفلة مصدومة باكتشاف الشر. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.