شعار قسم مدونات

العقدة العربية في تأسيس الشركات العالمية

blogs - تخطيط مشروع
أصابع يد واحدة تكفي لإظهار عدد الشركات العربية التي وصلت إلى العالمية، وأقصد هنا بالوصول للعالمية هو أن نجد شركة عربية تسوق لمنتجاتها في العالم قاطبة أو أغلبه، مهما كان نوع المنتج سواء في الجانب الصناعي أو التقني أو حتى الفكري.

لماذا يفشل العرب مع امتلاكهم لكل المقومات في الوصول إلى شركات ذات سمعة وإنتاج عالمي؟ يوجد حقاً مشكلة لا تقل أهمية عن أي مشكلة بالغة الحساسية والأهمية، فالشركات هي العصب الاقتصادي والتطويري في أي مجتمع كونها تشكل حلقة الوصل التي لا غنى عنها بين المكتسبات العلمية الأكاديمية أو المهارات المكتسبة للأفراد وبين سوق الاستهلاك.

الناتج الناجح هو الترجمة الحقيقية للمواد الخام السليمة ولآلية التصنيع الصحيحة، بوجود هذه المدخلات سنحصل على مخرجات ناجحة ومربحة، هي معادلة بسيطة بالتعريف لكن ما سر فشل العرب في فهمها؟ آلاف الشركات العربية يتم تأسيسها سنوياً ومنذ النهضة الاقتصادية العربية لكن عملياً لم نسمع اإا ببعض النجاحات التي وصلت للعالمية، فما هو اللغز ولماذا لا نزال سوقا مستهلكا يتبع الركب العالمي ولا يبلغه.

أهم العناصر الأساسية التي تشكل قوام أي شركة هي: البنية المادية، البنية البشرية، البنية المالية، الأنظمة الضابطة، الهدف والرؤية. ويندرج تحت كل عنصر الكثير من العناصر الفرعية التي يحدد طبيعتها نشاط الشركة. في أغلب النظم العربية الحكومية التي تضبط عملية تأسيس الشركات تلزم المؤسس على العنصر الأول وهو البنية المادية والتي يقصد منها البنية التحتية، فالعنصر الأول لا يشكل عملياً سبباً في عقدة الوصول للعالمية.

الثغرات كلها تكمن في باقي العناصر مجتمعة ومتداخلة لدرجة يصعب فصلها عن بعضها، فهي تشكل بمجموعها الجانب السلبي الذي يستنفذ أي جهد وطموح نحو العالمية، لكن أهمها البنية البشرية وبلغة حديثة Human ware، اذ يعاني العقل العربي من كثير من الخلل المنقول من الواقع الأسري والاجتماعي والأكاديمي إلى الواقع المهني والإنتاجي.

أربعة تجارب عربية (وليست الوحيدة للإنصاف) وصلت إلى العالمية لا طائل لذكرها الآن، تجربة كويتية في الثمانينيات، تجربتان سورية وأردنية في التسعينيات، تجربة سعودية في الألفية الجديدة.

الموظف في المؤسسات العربية هو عنصر من متاع الشركة المتوارث في حال تغييرات البنية الهيكلية أو الإدارية، بل ويسقط هو وخبرته بالتقادم كلما زاد عمر الشركة، فلا نستغرب حينما نجد الموظف نفسه على الكرسي نفسه لعشر سنوات، في حين تغيرت الإدارة لعدة مرات في تلك السنوات ولا تزال الشركة تهرول في المكان نفسه، وحينما نقول في المكان نفسه لا يعني عدم تقدم إنتاجها وبروزها في السوق الاستهلاكي، وإنما القصد دورانها في حلقة محلية بالكاد تصل إلى الإنتاج الإقليمي.

أول ما يخطر في بال الإدارات العربية عند هبوط الإنتاج هو التقليل من عائد الشركة الذاهب إلى جيب الموظف، وثانيها تقليص التسويق وكلاهما يشكل عصب الاستمرار.

تأسس أحد محركات البحث العالمية منذ أقل من عقدين، واستخدم قاعدة أساسية يعمل على أساسها منذ وقتها (لا تكن شريراً) في كل تقارير هذه الشركة تبرر أن هذه القاعدة تشكل عصب النزاهة في السوق الاستهلاكي، لكن بنظرة عميقة وجد الباحثون أن تلك القاعدة هي عصب النظام الداخلي لديها، فالموظف لديها غير مهان، يتم تأهيله باستمرار، منحه المزايا اللازمة للسعادة الوظيفة والكثير من سبل الراحة.

في المؤسسات العربية الموظف شريك في الخسارة منافس عند الربح، فلا يتم إشراكه بأي نجاح مالي في المؤسسة، تجهل الإدارات العربية حقيقة مرة تكلفها الكثير من الخسارات وهي أن الموظف طاقة متحركة تنتج في أي مكان صحي، فمقدار الخسارة لديه محدود، في حين خسارة الشركة للطاقة البشرية الفعالة هي خسارة فادحة، كون طاقة الشركة طاقة كامنة عنصرها الأساسي ثبات الموظف وليس ضياعه أو التقليل من مكانته، فهو بالنهاية عصب الإنتاج وليست الإدارة، فغاية الإدارة التخطيط بالدرجة الأساسية وليس الإنتاج.

في أغلب (إن لم يكن كل) الشركات العالمية يعلو قسم الموارد البشرية كل الأقسام فهو سلطة عليا لأنهم يدركون قيمة الفرد، في المؤسسات العربية الأفراد في أدنى هرم البنية.
في الأزمة المالية قبل الأخيرة قامت بعض الشركات العالمية بمحاربة الأزمة المالية بزيادة المزايا التحفيزية لا بإنقاصها وقد نجحت، فنجاح الفرد كعنصر هو نجاح للكل المؤلف من تلك العناصر.

أربعة تجارب عربية (وليست الوحيدة للإنصاف) وصلت إلى العالمية لا طائل لذكرها الآن، تجربة كويتية في الثمانينيات، تجربتان سورية وأردنية في التسعينيات، تجربة سعودية في الألفية الجديدة، أربع تجارب ترفع لها كل القبعات، في البحث بماهية هذا النجاح تبين أن الفرد لديها متفانٍ في العمل، لم يأتِ هذا التفاني إلا بعد مهارة الإدارات في صناعة الفرد الفعال والاستفادة من كل طاقته الإنتاجية عبر التحفيز الحقيقي.

مشاريع تخرج في جامعات أجنبية تحولت إلى شركات عالمية عملاقة، وشركاتنا تهرول في المكان وتتخبط بين الانهيار والاستمرار المحدود، فمتى نقفز للعالمية.

بالعودة إلى العناصر المشكلة لأي مؤسسة تم ذكر البنية المالية والنظام الضابط والرؤية، هناك تقارب كبير بين هذه العناصر لكن علينا أن نشير بالبنان لجوانب الخلل التي تحول دون العالمية.
آلية فهم رأس المال التأسيسي في الإدارات العربية هي آلية مغلوطة، فرأس المال لا يعني تكلفة التأسيس، رأس المال بتبيان بسيط هو الكم المالي المحتاج حتى تصل المؤسسة لمرحلة الإنتاج الربحي يضاف إليها مدة زمنية تقديرية كون الربح مرتبط بحالة السوق أو بعض الاعتبارات التي لا تجعل من الربح قاعدة دائمة، فقد يتم الربح مباشرة كون السوق بحاجة هذا النوع من الإنتاج في تلك المرحلة ولا يلبث أن يتلاشى، كثير من المؤسسات العربية نفد رأس مالها مع نهاية التأسيس على أمل مباشرة الربح بعد التأسيس، كون الشركة استوفت شروط التأسيس بنظر المؤسسين وهذا مفهوم بدائي جداً، إذ أنه لا يأخذ إدارة المخاطر بعين الاعتبار، ولا يمنح المؤسسة فرصتها الكاملة، السبب في ذلك هو المفهوم الخاطئ للتأسيس، التأسيس لا يعني الانتهاء من بنية تحتية وبشرية وإدارية ومالية كافية للبدء بالإنتاج، التأسيس ينتهي عند تحقيق الإنتاج المتوافق مع الرؤية الموضوعة.

النظم الداخلية المتوافقة مع الرؤية تشكل الداعم الحقيقي للاستمرار لأنها ترسم وتراقب آلية العمل القادمة من الإدارة الاستراتيجية نحو جانب التنفيذ.
الإدارة الاستراتيجية لا تعني فقط وضع الخطط وإنما تقوم على كثير من المحددات والعناصر والشروط، ومنها مدى توافق الخطط مع منجزات المنافسين، فهم آلية عمل السوق والضوابط الناظمة له، الاستخدام الأمثل للحلول التقنية المتاحة كون التكنولوجيا وُجدت لتخفيف الحمل على الجانب البشري ليتسنى له استخدام مساحة زمنية وإدراكية أكبر للتخطيط والتفكير والتطوير.

بمثال واقعي بسيط من باب التشبيه حول فكرة فهم السوق، قام أديب عربي منذ عقود بنشر رواية ممتعة جداً تقع احداثها التمثيلية في صحراء لبنان وبعد صدور الرواية تبين له أن لا صحراء في لبنان، لم يكترث القراء لاحقاً بجمالية الرواية بقدر اكتراثهم بجهل الكاتب بفهم بيئة الرواية.

فلنكن واقعيين، الغريب في الأمر أن كل التجارب العالمية متاحة أمامنا ونسبة الاستفادة من تلك التجارب للانتقال للعالمية تكاد تكون شبه معدومة، الفانوس السحري في عقولنا لا في أيدينا، لأن ما في أيدينا أكثر من كافي.

مشاريع تخرج في جامعات أجنبية تحولت إلى شركات عالمية عملاقة، وشركاتنا تهرول في المكان وتتخبط بين الانهيار والاستمرار المحدود، فمتى نقفز للعالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.